في أوقات الشدة الوطنية يري كل ذي رأي أن من واجبه تقديم ما يستطيع تقديمه إلي وطنه. ويري الذين يمارسون العمل السياسي اليومي، أو يتمنون ممارسته، أن الرأي وحده لا يكفي، وبعضهم يري أنه لا يجدي، ولذلك يتجمع المتقاربون من هؤلاء ليكونوا أشكالاً جديدة من القوي السياسية: فهذه حركة، وتلك جماعة، وهذا تجمع، وهذه جبهة... وسمِّ ما شئت من أسماء فإنك واجدها في الموج السياسي الذي يموج به المجتمع المصري بل والعربي كله هذه الأيام. في مصر لدينا حركة كفاية التي ولدت من رحم تجمع مناضلين أفراد منهم ذوي الماضي اليساري، والناصري، والإسلامي؛ ومنهم المنتمون إلي أحزاب قائمة ومنهم من لم ينتم إلي حزب أصلاً. وهي تعبر عن نفسها بالتظاهر والكتابة وتطالب بديمقراطية حقيقية وحرية كاملة. ولدينا حركة التجمع من أجل الاستقرار والازدهار, وهي من اختراعات رئيس حزب من الأحزاب الخاوية من الجماهير، العارية من البرامج والأفكار، الفقيرة كل الفقر في القدرة علي الحركة المثبتة للحياة، لكنها غنية غني فاحشاً بالترخيص الذي تحمله من لجنة شؤون الأحزاب(!) التي لم ترخص قط لحزب لديه الحد الأدني من العدد اللازم لقيامه. أعني لديه حقاً وصدقاً، لا علي الورق. وقد كنت أظن أن هذه الحركة أطلقها بعض ذوي الميل إلي الحزب الوطني ولكنني علمت مؤخراً أن لا شأن لها به واعتبرت ذلك خبراً ساراً. فليس من العدل أن ينازع الحزب، الذي يملك كل مقدرات الدولة والحكومة، الحركات الشعبية التي لا تملك إلا قدرات الأفراد الآحاد أو العشرات أو المئات المؤمنين بتوجهها حتي إنهم يضحون بالوقت والمال والسلامة والأمن الشخصيين في سبيل تحقيق بعض أهدافها. ولدينا محاولة جادة لإنشاء تجمع سياسي جديد يضم شخصيات معروفة ذات ماضٍ سياسي في الحكم وخارجه، وقد أعلنت إحدي الصحف علي الأقل أن هذا التجمع يقوده السيد عزيز صدقي، أحد رؤساء الوزراء في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، ويضم السادة يحيي الجمل وحسب الله الكفراوي وسامي شرف واللواء طلعت مسلم والدكتور حسن نافعة والدكتور رفيق حبيب وآخرين، فضلاً عن القائم بدور الدينامو أو القوة الدافعة للتجمع كله صديقنا الأستاذ مصطفي بكري رئيس تحرير الأسبوع! وهذه التجمعات هي في الواقع أحزاب، بالمعني الكامل للكلمة، لا ينقصها إلا الترخيص الحكومي، الذي نرجو أن يلغي قريباً عند تعديل قانون الأحزاب السياسية الموعود. ومع أن هذه الأحزاب تكاد أن تكون معبرة عن كل ألوان الطيف السياسي في مصر، وربما صح أن نقول في العالم المعاصر إذا وضعنا في اعتبارنا الجماعات التي تعمل في الداخل بالوكالة عن جهات أجنبية، وهي غير قليلة لكنها عديمة التأثير فاقدة القيمة لا تحظي بأي احترام فكري أو شعبي أقول رغم ذلك فإن هناك من ذوي التأثير الفكري والثقافي في المجال السياسي من لا ينتمون إلي أي من هذه الحركات والتجمعات. وهم يتخذون هذا الموقف عن قناعة وبصيرة وليس لأي سبب آخر، وقد تجسدت رؤية هؤلاء أو فريق منهم بمناسبة محاولة إنشاء التجمع الذي يقوده الدكتور عزيز صدقي. فقد دعي إلي المشاركة في هذا التجمع أو في التحضير له عدد من الشخصيات الثقافية والفكرية وجدوا أن الانضواء تحت لواء أي تجمع يحد من استقلالهم ويقيد رؤيتهم، ويؤدي بهم إلي الامتناع عن التعبير عن بعض ما يحبون التعبير عنه بالحرية التي يمارسونها الآن، لا يقيدهم إلا ما تمليه عليهم ضمائرهم وما يرونه محققاً لمصلحة الوطن. وهذه الحرية وتلك الاستقلالية هي أغلي ما يحرص عليه صاحب الرأي. أن يملك المسافة بين سن القلم وسطح الورق كما يقول دائماً المستشار طارق البشري ويملك المسافة بين طرف اللسان وبين شفتيه، فلا يجري في هاتين المسافتين إلا ما يريد هو. ويتحمل مسؤوليته هو. ويقبل بتبعات قبول الناس له أو اعتراضهم عليه دون مؤثر خارجي ولو كان من جماعة من الناس يحترمها كلها، أو يحترم أغلب المنتمين إليها، فضلاً عن أن يكون من حاكم أو ذي جاهٍ مخوفٍ أو سلطانٍ قاهر. فإن ذلك الاحترام وهذا الجاه وذاك السلطان، وأصحابها، لا سبيل لهم إلي التأثير في الضمائر والعقول.وأصحاب هذه الرؤية يستطيعون الصمت حين يريدون، لكنهم يصمتون تعبيراً عن موقف لا عجزاً عن الكلام ولا خوفاً من البوح. وحرية الصمت، شأنها شأن حرية الكلام، كلاهما غالٍ عند أصحاب هذه الرؤية لا يضحون به مهما تكن الأسباب. وهم يعرفون أن مقتضي العمل في جماعة أن ينزل الفرد فيها، والقلة، علي رأي الغالبية؛ وهذا أمر تفسد بغيره فكرة الجماعة نفسها وتنحل عقدتها. وهم لا يستبعدون، لأي سبب كان، أن يأتي موقف أو وقت يكون لهم، أو بالأحري لأحدهم، رأي خاص لا يوافق فيه الجماعة المعنية ولا يتفق معها. وهم لا يحبون أن يكون وجودهم في جماعة سبباً محتملاً في تمزيقها أو شق صفها أو تفريق شملها. فهم إن لم يكونوا عوناً علي القوة فلن يكونوا أبداً عاملاً للإضعاف. والقارئ والمستمع والمتابع للشأن العام يحبون في أحيان كثيرة أن يعرفوا رأي هؤلاء الأفراد المستقلين مهما كان عددهم قليلاً بل لعل هذه القلة وذلك الاستقلال هما اللذان يمنحان أصحابها نوعاً من التصديق والقبول العام من الأغلبية الصامتة غير المنتمية ومن كثير من ذوي الانتماء الحزبي أو ما شاكله. وتخسر الأوطان، أكثر مما تكسب الأحزاب والجماعات، إذا فقدت هؤلاء المستقلين المتحررين من كل قيد إلا قيد ما يمليه الضمير ويُلِزمُ به العقل وتدعو إليه المصالح الوطنية العامة. وهؤلاء في استقلالهم وحريتهم في القول وتركه قوة لكل قوة في هذا الوطن، وإضافة ذات بالٍ إلي كل جماعة تعمل لصالحه لا لصالح أفرادها أو أفراد غيرهم. وهم حين ينتقدون يحاولون إحلال الصواب محل الخطأ والحق محل الباطل والنافع محل الضار. وحين يوافقون يؤيدون الصدق والصلاح والإخلاص، وهم علي الحالين لا يستغني عنهم إلا مؤمن بالاستبداد مقيم علي الفردية مُصر علي احتكار الحقيقة ولو لم يكن له منها شروي نقير(!) إن هؤلاء من الأوطان منزلة الملح من الطعام. وقديماً قيل: يا معشر القراء يا ملح البلد من يصلح الملح إذا الملح فسد؟!