أرفع الجوائز الصحافية في مصر هي الجائزة التي تمنحها نقابة الصحافيين كل عام لواحد من كبار الصحافيين البارزين في المهنة، والمشتبكين مع الهموم الوطنية، المدافعين عن الديمقراطية والحريات، وقد ذهبت الجائزة هذا العام إلى الكاتب الكبير محمد عودة. ليكون نجم احتفال هذا العام بيوم الصحافي الذي يحتفل فيه الصحافيون المصريون بذكرى وقفتهم ضد قانون غاشم صدر قبل عشر سنوات لفرض القيود على الصحافة ونجاحهم في إسقاطه.بعض الجوائز تضيف لمن يحصلون عليها، وبعض الفائزين بالجوائز يضيفون الكثير لقيمة الجائزة التي يحصلون عليها، ومن هؤلاء محمد عودة. فالرجل ورغم كل تواضعه أكبر من كل الجوائز، والقيمة الحقيقية لهذا الحدث هي التأكيد على قدرتنا عندما نريد على أن نعيد الأمور لنصابها.فوز عودة بالجائزة هذا العام هو انتصار لكل القيم الشريفة التي دافعت عنها أجيال من المثقفين المصريين، وحملها الرجل في رحلته الطويلة مع الصحافة والثقافة والفكر والسياسة على مدى أكثر من ستين عاماً من عمره المديد إن شاء الله . والذي تجاوز فيه الثمانين، ومازال الأكثر شبابا والأشد إيمانا بمستقبل مصر ومستقبل العرب.الصحافي فيه هو الباحث دوما عن الحقيقة، صاحب الأسلوب الذي يأخذك من أول كلمة إلى النهاية دون حشو أو استطراد، هو الأستاذ الذي تخرجت على يديه أجيال من الصحافيين، هو أول رئيس تحرير لصحيفة «الأهالي» الناطقة باسم التجمع. هو فاتح الطريق لكل جديد، المحتفي على الدوام بكل موهبة، الطارق لأبواب المعرفة حتى الآن وكأنه تلميذ في أول الطريق.المثقف فيه هو ذلك القادم من تراب ريف مصر ومن ثقافة الأزهر، إلى رحابة العالم. لم يكتف بالاطلاع على ثقافة الغرب أو معايشتها. ولكنه رأى المستقبل على الجانب الآخر، ذهب إلى الهند وعاش فيها وتعمق في دراستها، وأصبح خبيرا بدقائق حياتها السياسية والثقافية، وكان أول من قدم لمصر والعرب هذا المارد القادم من أرض الصين بعد ثورتها. ومن عناق الشرق والغرب كانت روحه الإنسانية التي تآلفت مع حقيقة مصر كواسطة للعقد وملتقى لثقافات العالم. والمناضل فيه لم ينتظر يوما ثمنا لنضاله، آمن بالتجربة الناصرية وكان واحدا من أبرز المقاتلين في ساحتها، فلم يتطلع لمنصب ولم يسع لمكسب شخصي، ولم يتخل عن مبدأ، ولم يتقاعس في الدفاع عن حق من اختلف معهم في التعبير عن آرائهم، ودفع هو الثمن ولم يندم. وعندما تغيرت الأحوال بعد رحيل عبدالناصر ظل صامداً في وجه أبشع الحملات التي استهدفت الثورة وقائدها، والعروبة وطريقها. وفي الوقت الذي انشغل فيه الكثيرون بتغيير جلودهم، وآثر آخرون الصمت، وسعى غيرهم إلى السلطة الجديدة، وقف عودة وقد أدرك حجم المخاطر وكأنه كتيبة بأكملها يقاتل. ويفضح الأكاذيب، ويكشف الحقائق، وينبه لأشد حملات تزوير التاريخ التي كانت أطراف في الخارج والداخل تقوم بها. وسيظل رده على كتاب توفيق الحكيم «عودة الوعي» نموذجاً في شرف الكلمة ووضوح الموقف في أصعب الأوقات. ويصب تتبع أكثر من ستين عاما من النضال في صفوف قوى الحرية والتغيير. ومن العمل الدؤوب كاتبا وصحافيا مهموما بقضايا الوطن وبتاريخه، ومثقفا هو علامة بين المثقفين المصريين والعرب، فهو المقاتل في صفوف ثورة الجزائر وهو المناضل مع ثوار اليمن، وهو حامل الهم القومي على مدى عمره الطويل، وهو الذي مازالت الدموع تترقرق في عينيه كلما جاء ذكر القدس الأسيرة. وهو الذي رغم الهزائم والنكسات لم يفقد إيمانه لحظة واحدة بأن مصر ستنهض من كبوتها لتقود أمتها العربية نحو التحرر والنهوض.في منزل من غرفتين صغيرتين يعيش الرجل وتلتقي مصر كلها في رحابه، مثقفون من كل الاتجاهات يجمعهم رباط واحد أنهم دراويش في عشق الوطن. وأجانب من ثقافات مختلفة جاءوا إلى القاهرة بنصيحة مخلصة: إذا لم تذهبوا إلى حيث عودة، فستظل معرفتكم بمصر ينقصها الكثير.وعلى مكتب صغير مازال الراجل مشتبكا مع الحياة ومع قضايا الوطن، وإياك أن تبحث عن شيء من مؤلفاته فلن تجد الكثير منها. وبعضها موجود في المكتبات، ولكن بعضها اختفت طبعاته رغم أهميته التاريخية. كتابه التاريخي عن «الصين الشعبية» قبل أكثر من خمسين عاما والذي قرأه عبدالناصر وهو مازال مخطوطا وبعد أن اعترضت الرقابة عليه وأجازه على الفور لن تجد نسخة منه. كتابه العظيم عن ثورة يوليو «ميلاد ثورة» والذي كان المرشد والمعلم الأول لأجيال من شباب مصر تفتح عيونهم وعقولهم في وقت اشتدت فيه الحملات لتقود هذه الأجيال إلى ضياع لا توجد منه نسخة واحدة. كتابه الذي كان أشبه بطلقات الرصاص في الرد على «توفيق الحكيم»، لا يتوافر في المكتبات. والأمر يحتاج إلى مشروع قومي نعيد فيه ترتيب أولوياتنا، ونطرح للأجيال الجديدة تراثنا الفكري الحديث، وتاريخنا الحقيقي ضمن برنامج يدرك أن العقل العربي لا يمكن أن يعانق العصر وأكثر مطابعه مشغولة بكتب عن عذاب القبر وعن زواج الجن! والحديث عن عودة يحتاج إلى كتب، وليست هذه إلا رسالة محبة في رحاب هذا الصوفي العظيم في حب مصر. رسالة تتوقف عند بعض الملامح لعل أجيالا تتعرض الآن لما يريد طمس هويتها أن تعود مع عودة، وفي رحابه، إلى حيث يمكنها رؤية الطريق الصحيح بوضوح والسير فيه بثقة.في رحابه تعلمنا أن الرجل موقف، وأن القلم مسؤولية، وأن كل شيء في الدنيا لا يساوى لحظة صدق مع النفس. وفي رحابه تعلمنا ألا نفقد الأمل مهما كان سواد الليل. فالفجر قادم، والحرية لابد أن تنتصر، وإرادة الناس لابد أن تفتح كل الأبواب المغلقة.وفي رحابه تعلمنا أن الوطن يكون حرا بمقدار ما يكون المواطن فيه حرا كريما. وتعلمنا أن سعادة الإنسان هي الغاية من كل كفاح. وفي رحابه تعلمنا أن عشق الوطن لا يكون بالأغاني والأناشيد، ولكن بالعمل الصالح وبالكلمة الشريفة وبالإيمان العميق بقدرة هذا الوطن على النهوض والتقدم.وفي رحابه تعلمنا أن نسلك الطريق الصعب ولا نخشى شيئا وأن ننحاز إلى العدل والحرية مهما كانت التضحيات. وأن ندرك أننا أصحاب حضارة عظيمة قامت على التسامح وانفتحت على العالم واستطاعت أن تبدع للبشرية أعظم انجازاتها حين امتلكت الرؤية وعرفت الطريق وآمنت بالعلم طريقا للتقدم. وفي رحابه مازلنا نتعلم، فحين داهمته الأزمة الصحية العنيفة تحول المستشفي الذي نزل به إلى ساحة التقت فيها مصر كلها لتعبر له عن حبها وتقديرها. وأدركنا جميعا أن الحقيقة لا تضيع أبدا مهما تعالت أصوات الزيف والبهتان. وفي رحابه ما زلنا نتعلم، فمازال الرجل رغم آثار السنين يفرح كطفل بكتاب جديد، ويسعد من القلب بنجاح شاب صغير طرق بابه ذات يوم يطلب المعرفة وينشد نصيحة الأستاذ. واليوم والصحافيون والمثقفون يحتفلون بالرجل ويحتفلون معه بكل ما يجسده من قيم نبيلة . فإنهم يعلمون أن كل جوائز الدنيا تهون أمام الجائزة الكبرى التي حصل عليها عودة من قبل حين أصبح واحدا من قلائل في تاريخ المحروسة، أعطتهم مصر سرها فأصبحوا جزءا من روحها التي تشع بالنور وتزهو بالعطاء. ------- صحيفة البيان الاماراتية في 19 -6 -2005