استمعت بمزيد من الأسى لمحدثتي وهي تصف علاقتها بشقيقتها الوحيدة وكيف صار كل حديث بينهما ينتهي بمشادة وتجريح إذا تطرق نحو الموقف السياسي لكل منهما وأنها صارت ترجوها ألا يتم تبادل وجهات النظر ولتبقى إحداهما مؤيدة والأخرى معارضة، وبالرغم من هذا الاتفاق إلا أن الشقيقتان اللتان كانتا وجهان لعملة واحدة انفصمت بينهما المشاعر والآراء ولم يبق لهما إلا أضعف و أوهى الروابط الشكلية. الشرخ يتزايد ويتضح كل يوم ولا فائدة كبيرة من ذلك التساؤل العبثي من الذي أحدث هذا الشرخ في المجتمع المصري الذي كانت أبرز صفاته وجود نسبة عالية من التجانس والوحدة بين أفراده. الشرخ بدأ منذ زمن طويل جدًا ولكنه كان مقصورًا على النخبة وهي الشريحة العليا في المجتمع بينما ظل جموع الشعب متكاتفين يسعون على أرزاقهم ويعبدون ربهم ويعرفون حق الجار ويرتبطون بعائلاتهم ويسعون للحصول على مصالحهم وتلبية حاجتهم فى إطار ما تسمح به الظروف، وإذا استمعوا يومًا لسجال تليفزيوني فإن ما يسمعونه يدخل الأذن اليمنى ليخرج سريعًا من اليسرى دون أن يؤثر كثيرًا في العقل وذلك لأنهم يعرفون أن النخب هم أشخاص تليفزيونية يلعبون أدوارًا ليست حقيقية تمامًا مثل تلك المسلسلات والأفلام التي نملأ بها فقط وقت الفراغ وذلك بدليل أن هؤلاء الناس لا نراهم ولا نلمس لهم أثرًا في حياتنا اليومية الفعلية. الصراع الحقيقى بدأ بين ثقافتين إحداهما ثقافة المجتمع المصري المحافظ وأهم صفاتها أنها تعلى من أهمية الجماعة وتقدم مصلحة الحفاظ على تماسكها على مصلحة الفرد، ثقافة تجعل البطولة من نصيب الفدائي الذي يضحي بحياته فداء وطنه ومن نصيب تلك الأرملة التي تربي أبناءها بكفاح وشرف مضحية بسعادتها الشخصية، أهم القيم هنا هي التضحية والفداء وإعلاء القيم العليا والحفاظ على الروابط العائلية والاجتماعية والوطنية. أما الثقافة الوافدة فقد جلبتها النخبة التي تعلمت في الغرب وانبهرت بتحرره وتقدمه وعادت ومعها ثقافته الفردية التي تعلى من قيمة الفرد وحريته وحقه في السعادة الشخصية حيث ينظر الناس إلى أنفسهم على أنهم منفصلون ومنفردون وأحرار فى اختياراتهم الشخصية حتى لو تعارضت مع رغبات الجماعة، في الحقيقة لكل من الثقافتين مزاياه وعيوبه فالثقافة الفردية مثلا تحقق الحرية الاجتماعية بلا قيود وتمنح مناخًا أفضل للإبداع والتميز الفردي ولكن المجتمعات الفردية تميل أكثر للمعاناة من الأمراض الاجتماعية مثل الطلاق والانتحار والتشرد، بينما المجتمعات الجماعية تؤمن بأن الجماعة هي أهم وحدة أساسية وينظر الناس لأنفسهم على أنهم مرتبطون بعضهم ببعض من خلال روابط قوية يحتمها الواجب والالتزام، وعليهم أن يعملوا دائمًا من أجل تعزيز انسجام الجماعة، وبالرغم من أنهم يشعرون أحيانًا بالإحباط بسبب تضحياتهم الشخصية إلا أنهم يتمتعون بالعلاقات العائلية القوية والمساندة الاجتماعية الممتدة. من الأمثلة البسيطة على ذلك لو سألت امرأة من أنتِ؟ فإنها طبقًا للثقافة الجماعية ستقول: (أنا حرم الأستاذ... أو أنا أم فلان) أما في الثقافة الفردية ستقول: (أنا عاملة مجتهدة أو أنا امرأة جميلة مثلًا.) إن الثقافة ليست هي الجوانب الظاهرة مثل اللغة والدين والملبس والطعام فقط ولكنها أعمق من ذلك كثيرًا، إن كل ما سبق هي عناصر ثقافية الأهم منها الجذور وهي الاشتراك في مجموعة من المعتقدات والاتجاهات والتعريفات الذاتية والقيم، وتبدو في كيف يتواصل الناس، وكيف يفهمون أنفسهم، وما هي العبارات التي يستخدمونها؟ وما هي الرموز التي يعتزون بها كثيرًا؟، ولذلك فإننا في مجتمعنا المصري مازلنا نحمل نفس العناصر الثقافية الواحدة نفس اللغة نفس الدين ونفس الظروف المعيشية ولكن على مدار السنين تغيرت الجذور وتغيرت الاتجاهات والانتماءات حتى وصلنا لذلك المشهد الذي تنفصم عرى التشابه بين شقيقتين وبعد أن كانتا تواجهان الدنيا معًا يدًا في يد وكتفا بكتف صارتا تواجهانها ظهرًا لظهر تمهيدًا لانطلاق كل منهما في طريق مختلف. هذا الأمر واضح بشدة لدى البسطاء من الناس الذين يقولون دائمًا نتمنى أن نرجع مثلما كنا من قبل إخوة وأحباب، نحن نريد الاستقرار ونخاف الانقسام والتفرق، نرجو العقلاء والمخلصين أن يوقفوا هذا الجنون الجماعي الذي سيشطر الوطن ويخرج منه الجميع خاسرين. وهو ما يعنى أن الشعب صار يسبق النخبة بخطوات. ولكن من يتصدرون المشهد السياسي والإعلامي لهم رأي آخر فهم جميعًا لا يتحلون بالنضج الكافي ولا يعنيهم سوى مصالحهم الخاصة، ويقولون دائمًا مالا يفعلون وقد تحول السجال السياسي السلمي حاليًا إلى خلافات شخصية وعند ومكابرة ولا سبيل إلى وأد إحدى الثقافتين أو تهميشها والحل العاقل الوحيد هو إحداث نوع من التزاوج بينهما والاحتكام إلى قواعد ثابتة والرضا بها ومن لديه طموح سياسي فليسلك مسلكًا شريفًا للوصول لما يريد ولا يفجر في خصومته أو يشوه غيره ليبدو كاملًا، استمعوا لصوت الشارع الحقيقي واعملوا من أجل مصلحة الناس.