كلما حدثت عملية إرهابية تعالت الأصوات داعية إلى عقد مؤتمر دولي لمكافحة الإرهاب، وقد تواترت تلك الدعوات في الآونة الأخيرة، حتى بدا وكأن «المؤتمر» هو طوق النجاة وهو الحل، وذلك وهم كبير أرجو ألا نستسلم له، راجياً أن نفكر في الموضوع بطريقة أخرى، ننظر بمقتضاها في مرآتنا ونتطلع في مواقع أقدأمنا أولا، وقبل أن نمد البصر إلى الشاطئ الآخر، أو نبحث عن الحل في ما حولنا ومن خلال مرايا الآخرين. مضطر ألفت الانتباه إلى أن التعاون الدولي لمكافحة الإرهاب حاصل بالفعل، وأزعم أنه يبلغ الآن مدى غير مسبوق في التاريخ، بعدما دخلت أميركا بقوة على الخط في أعقاب ما جرى في 11 سبتمبر (أيلول)، والتقارير التي تنشرها الصحف الغربية حول شبكات وترتيبات الرصد لحركة الأشخاص والأموال والتنصت على الاتصالات، تكشف عن الجهد الجبار الذي يبذل على ذلك الصعيد، وتلعب فيه التقنيات الحديثة بما فيها الأقمار الصناعية دوراً أساسياً. وإذا لا يجادل عاقل في ضرورة التعبئة على أوسع نطاق ممكن، والتعاون بين كل الأطراف المعنية في مكافحة الإرهاب، إلا أن ثمة أسئلة جوهرية تطرح نفسها في هذا السياق، أولها وأهمها السؤال الكبير المتعلق بتعريف الإرهاب، الذي يعلم الجميع أن ثمة خلافاً عميقاً حوله بين الدول العربية والدول الغربية، خصوصاً أميركا، وتكمن المصالح الإسرائيلية في قلب ذلك الخلاف للأسباب المعروفة، التي تعد تجسيماً للأزمة وتحكم بالفشل المسبق على فكرة المؤتمر الدولي. فهذه دولة إرهابية بكل معنى الكلمة، قامت على الإرهاب من البداية باقتلاعها شعباً من أرضه واغتصاب وطنه، كما يقودها ويرسم سياستها نفر من مجرمي الحرب، الذين إذا طبقت عليهم موازين العدل والقسطاس لوضعوا جميعاً في السجون من جراء ما ارتكبوا من انتهاك وجرائم ضد الإنسانية، وهي منذ قامت تتحدى قرارات الأممالمتحدة والشرعية الدولية وتسخر منها وتزدري بها، فاحتلالها للضفة الغربية ونهبها لأرضها وخيراتها مستمر منذ عام 67، حتى قرار محكمة العدل الدولية الذي أدان بناء السور العنصري والوحشي، وطالب بوقفه، ضرب به عرض الحائط، ولا تزال الجريمة مستمرة، والبناء ليلتهم كل يوم مزيداً من أراضي الفلسطينيين ويشرد مزيداً من عوائلهم. هذا كله لا يعد إرهاباً في نظر أميركا وعند بعض الساسة الأوروبيين، إنما الإرهابي هو من يقاوم الاحتلال ويحاول صد كل تلك الممارسات البشعة، وهي وجهة النظر الإسرائيلية التي تبناها المسؤولون في واشنطن ومن لف لفهم من الساسة الأوروبيين. بسبب الحرص الإسرائيلي والأميركي على اعتبار المقاومة إرهاباً، فإن فرصة انعقاد المؤتمر الدولي للإرهاب تبدو مشكوكاً فيها، أما نجاحه في الاتفاق على تعريف للإرهاب فاحتمالاته منعدمة تقريباً. المشكلة الأخرى التي تحول دون نجاح المؤتمر حتى إذا عقد في القضاء على الإرهاب ان أكثر الدول غير مستعدة للتعاطي مع الأسباب الحقيقية المؤدية إليه، أو لأغلب تجلياته إن شيءت الدقة، التي يشكل «الظلم» السياسي والاجتماعي محوراً أساسياً لها. فليس متصوراً أن يتمكن المؤتمر من الإشارة إلى دور السياسة الأميركية وممارساتها، التي هي بحد ذاتها إرهاب مصفى، في إشاعة الإرهاب وتوسيع نطاقه وتفريخ أجياله، وإذا كانت الإدارة الأميركية قد أثارت ضجة كبيرة لمجرد أن كوفي انان، الأمين العام للأمم المتحدة، ذكر أن العالم بعد 11 سبتمبر لم يعد أكثر أماناً عما كان عليه قبل ذلك التاريخ، فلك أن تتصور ما يمكن أن يحدث لو أن المؤتمر تحدث بصراحة عن مسؤولية أميركا عن تدويل الإرهاب وتعميمه، وبطبيعة الحال فلا يتصور أن يطالب المؤتمر إسرائيل بإنهاء احتلالها ووقف بناء السور والكف عن ممارسة التصفية والاغتيالات بحق الفلسطينيين، ويظل مستبعداً أن يطالب المؤتمر موسكو بوقف سياستها الوحشية في شيشينيا.. وهكذا. باختصار، فإن المؤتمر الدولي إذا عقد فإن الدول الغربية ستفرض إرادتها، وتضفي شرعية على سياساتها وممارساتها، وستكون إسرائيل هي الفائز الأكبر بين دول المنطقة، وهذه كلها نتائج طبيعية في ظل الخلل الشديد في موازين القوة، خصوصاً الضعف الشديد في الموقف العربي. إن شئت الدقة فقل إنه ستتم الإجابة لطلبات الدول العربية المتعلقة بتسليم المطلوبين وأنشطة اللاجئين السياسيين ومراقبة حركة الأموال، وهذه الاستجابة حاصلة بالفعل الآن بدرجة أو أخرى. وفي مقابل ذلك لن تتمكن الدول العربية من مقاومة الضغوط الأميركية والغربية، خصوصاً تلك التي تعتبر المقاومة نوعاً من الإرهاب. وفي هذه الحالة فلا مجال للمقارنة بين «المكاسب» المفترضة والخسائر الفادحة التي ستمنى بها الأمة العربية، في حقوقها المشروعة وأمنها القومي، أي في حاضرها ومستقبلها. لا أظن أن هذا ما يريده العقلاء من بين الداعين إلى فكرة المؤتمر الدولي، ناهيك عن انني لا اعتقد أن أية اتفاقات دولية يمكن أن تجتث جذور الأوهام وتغلق ملفه الدامي، بل انها لن تستطيع حتى أن تحاصر الإرهاب وتعيده إلى حجمه الطبيعي في أي مجتمع إنساني يصطرع فيه الخير والشر. أكثر من ذلك، فأزعم أنه حتى المؤتمرات الإقليمية لن تستطيع أن تقضي على الظاهرة، أكبر دليل على ذلك أن مؤتمرات وزراء الداخلية العرب منتظمة بهمة مشهودة منذ أكثر من عقدين، لكنها لم تحقق هذا الهدف، بل ان الإرهاب في العالم العربي حقق «صعوده» المحزن خلال تلك الفترة. لا أقول إن تلك المؤتمرات بلا فائدة بالمطلق، لكنني فقط أناقش مسألة دور المؤتمرات دولية كانت أم إقليمية في مكافحة الإرهاب. لقد دعوت في البداية إلى التعامل مع الموضوع بطريقة أخرى ومن مدخل مختلف، يركز على ما هو محلي أولا، ومن ثم يتعامل مع تربة الإرهاب وأجوائه المواتية، قبل أن يتعامل مع منتجاته وثماره. ولهذا تمنيت أن تكون خطوتنا الأولى على هذا الطريق هي أن ننظر في مرآتنا ونتحسس مواضع أقدأمنا. وليتنا نترجم هذه الرغبة في التنادي لعقد مؤتمر وطني لمكافحة الإرهاب، يشخص الوضع الداخلي في كل قطر، ويوجه الأصابع نحو مواطن الخلل والثغرات التي ينفذ منها الإرهاب أو يتذرع بها. وأزعم أن خطوة من ذلك القبيل ستكون أجدى بكثير من فكرة المؤتمر الدولي أو أية أنشطة إقليمية مفترضة. خذ مثلاً ما حدث أخيراً في مدينة شرم الشيخ المصرية من عمليات إرهابية أسفرت عن مقتل 88 شخصاً وإصابة 200 بجروح مختلفة، حسب الأرقام الرسمية، وهي المناسبة التي تجددت فيها الدعوة لعقد المؤتمر الدولي المشار إليه، ذلك أن من يتابع الإعلام المصري الرسمي على الأقل يلاحظ أنه حفل بإدانة مستحقة للإرهاب وأهله، وبتنديد لتنظيم القاعدة وكل التنظيمات الأخرى المشابهة، لكن أحداً لم يتطرق للإجابة عن السؤال: لماذا حدث ذلك في شرم الشيخ؟. حينما تحريت الأمر وجدت أن هناك أكثر من مشكلة في علاقة بدو سيناء، التي تقع شرم الشيخ على سياحلها، مع السلطة في مصر، وعلمت من بعض مسؤولي أجهزة الأمن أن عمليات بذلك الحجم الكبير نسبياً، لا يمكن أن تتم إلا إذا قام فيها البدو بدور رئيسي. لا يتسع المقام لضرب أمثلة أخرى في أقطار عربية أخرى، رغم أن لدي الكثير منها، لكن أكثر ما يهمني في الأمر هو أن نغير من وجهة تفكيرنا في التعاطي مع مشكلة الإرهاب، بحيث ندقق في خرائطنا الداخلية أولا. في مواجهة دعوات الإصلاح السياسي التي ترددت أخيراً، كان الإصرار العربي على ضرورة أن ينبع الإصلاح من الداخل، وهو موقف سليم ليتنا نحتذيه في مكافحة الإرهاب، بحيث نحرص جميعاً على أن نبدأ خطاه من الداخل أيضاً، إذ ليس منطقياً أن نتمسك بالإصلاح من الداخل في حين نتطلع إلى الخارج في مكافحة الإرهاب. --- صحيفة الشرق الاوسط اللندنية في 27 -7 -2005