صدر مؤخرًا كتاب جديد بعنوان "رأسمالية أفضل" Better Capitalism لمؤلفيه روبرت ليتان و كارل شرام. ورغم صمت الكتاب عن الكثير من المشكلات العميقة التى تواجه النظام الرأسمالى عامة و الأمريكى خاصة، والتى أشرنا إلى بعضها فى هذه المقدمة، فقد رأينا عرضه لأنه يتحدث عن الأسباب الرئيسية لتراجع الاقتصاد الأمريكى من وجهة النظر الأمريكية البحتة. والكتاب مهم باعتبار أن الاقتصاد الأمريكى لعب دور القاطرة للاقتصاد العالمى لفترة طويلة امتدت منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، ولكن بشكل متراجع وكما هو معروف فإن قيام أمريكا بلعب دور بارز فى إعادة إعمار أوروبا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية قد عاد بالفائدة عليها أيضًا، حيث تمتع الاقتصاد الأمريكى بمعدل نمو بلغ حوالى 3 % سنويًا طوال الخمسينات والستينات من القرن الماضى، وهو معدل نمو مرتفع بالنسبة لاقتصاديات الدول المتقدمة نسبة إلى وصول هذه الدول إلى مرحلة النضج الاقتصادى التى يصاحبها معدل نمو منخفض عادة مقارنة بالدول الآخذة فى النمو حاليًا مثل الصين والهند التى تصل فيها معدلات النمو إلى أكثر من ضعف هذا المعدل نتيجة الاحتياجات التنموية الكبيرة المطلوبة لرفع مستوى المعيشة لشعوبها التى عانت طويلًا من ويلات الفقر والتخلف. يرى الكتاب أن المعطيات التى اعتمد عليها الاقتصاد الأمريكى طوال العقود الماضية، والتى جعلته أكبر وأهم اقتصاد فى العالم قد تضررت كثيرًا فى الآونة الأخيرة، وأهم هذه المعطيات القدرة على الابتكار واقتصاد المعرفة وأسواق المال الأمريكية. حسب الكتاب فإن الدور الذى كان يلعبه ما يسمى بال Venture Capital أو رأس المال المغامر قد اندحر كثيرًا وانخفضت رؤوس الأموال الموجهة لشركات هذا القطاع الحيوى الذى أسهم فى الماضى فى نهوض الاقتصاد الأمريكى بشكل محسوس وقيامه بلعب دور الريادة فى كل الابتكارات والتقنيات الجديدة فى العالم. هذه الشركات كانت تعتمد فى نموها وتمويل اختراعاتها على ما يسمى بال ""IPO Initial Public Offering أى طرح أسهمها فى البورصة للاكتتاب العام وعلى سبيل المثال فإن شركة RIM الكندية وهى صاحبة تقنية الاتصال الخاصة بأجهزة البلاك بيرى طرحت اسمها فى وول ستريت منذ عشر سنوات تقريبًا، ولأننى كنت متابعًا لأخبار هذه الشركات الجديدة فقد تحمست لاختراعها واشتريت عددًا صغيرًا من أسهمها بمجرد طرحها، وكان سعر السهم فى حدود 3 دولارات للسهم على ما أتذكر، وفى خلال عدة أشهر وصلت قيمة نفس السهم إلى أكثر من 40 دولار ثم 60 دولار ثم 120 بعد سنتين أو ثلاثة من نجاح الشركة المبهر على مستوى العالم وطبعًا ندمت أننى لم أشتر أسهمًا أكثر. الفكرة أن متطلبات التسجيل لمثل هذه الشركات الجديدة المغامرة كانت سهلة فى سوق ناسداك الأمريكى مما كان يساعد هذه الشركات على تمويل اختراعاتها، وتوسيع عملياتها، وتوظيف كفاءات عالية لإدارة عملياتها، وبالمناسبة فإن كل الشركات التى تعمل فى مجال التقنية العالية مثل مايكروسوفت، وجوجل، وأمازون، والفيس بوك، وغيرها مرت كلها بهذه الدورة، ولولا مرونة أسواق المال فى أمريكا لما نجحت هذه الشركات على الإطلاق. وهكذا يمكن للقارئ معرفة كيف عملت هذه الآليات وهى القدرة على الابتكار واقتصاد المعرفة وأسواق المال على ريادة الاقتصاد الأمريكى وتحقيق معدلات نمو معقولة طوال عقود. وعودة إلى الكتاب الذى يسجل أن عدد الطروحات المبدئية "IPO" انخفضت فى أمريكا من 547 فى العام خلال التسعينات إلى حوالى 190 سنويًا منذ العقد الماضى. ولأن هذه الشركات الجديدة توفر عادة الملايين من فرص العمل فى أمريكا فإن انقطاع رأس المال عنها واضطررها إما للإغلاق أو عدم التوسع أدى إلى ارتفاع معدل البطالة فى أمريكا إلى أكثر من 8% حاليًا (22 مليون عاطل عن العمل). يذكر المؤلفان أيضًا - وهما محقان فى هذا- أن أمريكا اشتهرت فى الماضى كمجتمع مفتوح على الآخر وسهولة إجراءات الهجرة إليها خاصة من جانب المواهب الشابة فى جميع أنحاء العالم، هذه المواهب ذات الأصل الأجنبى حصلت على براءات اختراعات داخل أمريكا أكثر من تلك التى حصل عليها المخترعون من أصل أمريكى بحت، وللحديث بقية بإذن الله [email protected]