نشرت الأهرام منذ أيام على الصفحة الأولى خبرا عن الأم الأمريكية سيندي شيهان التي اعتصمت خارج مزرعة الرئيس الأمريكي في تكساس حيث يقضي عطلته ، للمطالبة بتلقي إجابة مرضية من بوش عن الهدف الذي قتل إبنها من أجله في العراق بعد أن تبين كذب جميع الأسباب الأخرى المعلنة للحرب. مثل هذه الأمور تثير ذعر الإدارة الأمريكية ورعبها من أن تتحول هذه التظاهرة إلى نواة تجتذب إليها أمهات أخريات ، فتتشكل حركة إحتجاج جماعية تتنافس على تغطيتها أجهزة الإعلام ، وتفاقم من حرج الإدارة إزاء العجز عن الخروج من مستنقع العراق. ولهذا حاول معاونو الرئيس بوش إحتواء غضب الأم المكلومة ، دون جدوى . منذ البداية كانت فيتنام هي الكابوس الذي تسعى الإدارة لتجنبه بشتى الوسائل في العراق. والمعروف أن فيتنام كانت كابوسا ليس فقط بسبب الهزيمة العسكرية أمام قوات الفيتكونج التي مرغت أنف العسكرية الأمريكية في الوحل الفيتنامي ، وإنما قبل هذا بسبب حركة الإحتجاج الضخمة التي تنامت داخل الولاياتالمتحدة ضد تورط أميركا في الحرب. وقد وصل الأمر إلى أن الرأي العام الأمريكي كان يعامل الجنود العائدين من فيتنام وكأنهم مجرمون ، حتى تحول زي العسكرية إلى مصدر للعار يلقى به الجنود في القمامة. وقد كان السبب الرئيسي في نمو حركة الاحتجاج السريع هو نظام التجنيد الذي كان إلزاميا على كل شاب أمريكي . وكانت نتيجة ذلك وصول فظائع الحرب إلى الغالبية الساحقة من البيوت الأمريكية (قتل في هذه الحرب 58 ألف جندي أمريكي وأصيب عشرات الآلاف). وقد توصلت إدارة بوش إلى الوصفة الكاملة التي إعتقدت أنها يمكن بها تجنب كابوس فيتنام ، وذلك أولا بعدم تمويل الحرب من أموال دافع الضرائب الأمريكي (وإنما جرى تمويلها بالاقتراض من الخارج إلى حين التمكن من نهب ثروات العراق) وبالتالي تجنب إعتراض المواطن الأمريكي على حرب لاتضيف عليه عبئا ماديا ، وثانيا أن يكون التجنيد تطوعيا وليس إلزاميا. والذين يتطوعون في العسكرية الأمريكية (خاصة في الجيش والمارينز الذين تحملا على عكس الطيران والأسطول ، جميع الخسائر في العراق) هم غالبا من الفقراء العاجزين عن العثور على عمل يقتاتون منه. وهؤلاء ينتمون إلى عدة جماعات (بيض وسود وهسبانيكس ، أي أمريكيون من أصل لاتيني) يجمع بينها واقع واحد : أنهم من البسطاء الذين لاظهر لهم يستندون إليه ولا لوبي يدافع عن مصالحهم في واشنطن أو يدفع بقضيتهم إلى الإعلام. غير أن أهم مجموعة من الجنود في صفوف الجيش الأمريكي هي تلك التي يسمونها "ساكنون شرعيون" ، وهم غالبا من فقراء أمريكا الجنوبية الذين يسعون إلى الحصول على الجنسية الأمريكية عن الطريق الخدمة في الجيش الأمريكي. وهؤلاء يبلغ تعدادهم أربعون ألف جندي ، وهي نسبة كبيرة في جيش الاحتلال تقترب من 10%. أحد هؤلاء هو الرقيب كاميليو ماهيا النيكاراجوي الذي هرب من الخدمة رافضا "المشاركة في حرب قامت على الكذب" والذي عرضت قصته مؤخرا في برنامج "60 دقيقة" على شبكة (سي بي إس) ، وحكم عليه عسكريا بالسجن لمدة عام. عدم إلزام الشباب الأمريكي بالتجند أبعد أهوال الحرب عن 95% من البيوت الأمريكية طبقا ليوي راينهارت (واشنطن بوست 1/8) . وهذا في حد ذاته يجنب الإدارة الأمريكية تكرار ما جرى خلال فيتنام من قيام إحتجاجات ضخمة تجبر الإدارة على سحب قواتها وإعلان الهزيمة. فلا يشارك في الاحتجاج إلا من يشعر بتأثير مباشر عليه من الحرب إما "بالقلق أو بزيادة الضريبة أو ببذل الدم" كما يقول الكاتب. أيضا ساهم عدم التجنيد الإلزامي في سهولة تمرير أكاذيب الحرب وقرارها ، أولا لأن الغالبية لن تهتم بمدى صدقية مبررات الحرب طالما أنه لا يوجد ما يستدعي القلق منها، وثانيا لأنه لا يوجد أبناء يخدمون في الجيش لأي مسئول في الإدارة وخاصة المنتمون إلى عصابة "المحافظين الجدد" ولا للغالبية الساحقة من أعضاء الكونجرس بمجلسيه. وبالتالي كان قرار الحرب سهلا لأنه لن يموت ويصاب فيها إلا أبناء الآخرين من بسطاء أميركا الذين لا حول لهم ولاقوة. وقد وصل إستخفاف الإدارة بهؤلاء الجنود إلى درجة أن البنتاجون أمر بمنع تصوير نعوش القتلى الأمريكيين القادمة من العراق وحظر على الإعلام تغطية جنازاتهم ، فكانوا يدفنون في السر لإخفاء حقيقة الحرب عن الرأي العام. وعندما إنكشفت هذه الفضيحة ، لم يكن أمام البنتاجون سوى إلغاء هذا الأمر. [email protected]