يقول أعداء الشريعة الإسلامية الكارهون لها إنها لا تتضمن حلولا لكل الموضوعات التى قد تعرض فى حياة الناس، ومن ثم فكيف يصر السلفيون على أن يكون النص فى الدستور الجديد (الشريعة الإسلامية مصدر التشريع)، وماذا تفعل الدولة لو أرادت إصدار قانون فى مجال ما، ثم يتبين أنه لم يرد له حكم فى الشرع؟ البعض يسأل هذا السؤال بحسن نية نتيجة عدم أو قلة العلم والتأثر بالدعاية المضادة للشريعة، والبعض يدّعون من باب الكبر والمعاندة والكراهية للشريعة أن الشريعة بهذه المثابة قاصرة ولا تصلح للتطبيق فى العصر الحالى، وهؤلاء وصفتهم محكمة النقض المصرية بأنهم كفرة مرتدون عن الإسلام وزنادقة يموهون بكفرهم ويروجون لعقيدتهم الفاسدة ويبطنون الكفر ويدّعون الإسلام. هذا الموضوع يتعلق بحدود سلطة المشرع فى إطار السياسة الشرعية، وهو العلم الذى يبحث فى تدبير شئون الدولة الإسلامية بما تتخذه من نظم وقوانين وسياسات تتفق مع الشريعة الإسلامية. يقول الدكتور يوسف القرضاوى فى مؤلفه "السياسة الشرعية"، إن الفقهاء قد حددوا مجالات ثلاثة يجوز للمشرع أن يجتهد فيها، ويصدر التشريعات التى تتفق مع مصالح الناس ويعمل فيها برأيه، وهى: 1- ما لا نص فيه. 2- ما يحتمل وجوها عدة. 3- المصالح المرسلة. وموضوعنا اليوم هو أول هذه المجالات (ما لا نص فيه). ماذا يفعل المشرع إذا عنّ له أمر من الأمور لم يجد فيه نصا شرعيا؟ 1. فهذا المجال يمثل (منطقة حرة) أو (منطقة فراغ) من النصوص، الشرعية الخاصة وهى التى تسمى (منطقة العفو) أخذا من الحديث النبوى الشريف الذى رواه أبو الدرداء عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم: (ما أحل الله فى كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو - وفى رواية "عافية"- فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا، ثم تلا "وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّا"، وأكد هذا ما رواه أبو داود من حديث ابن عباس قال: (كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء، ويتركون أشياء، فبعث الله نبيه، وأنزل كتابه، وأحل حلاله، وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو. وتلا "قُل لاَّ أَجِدُ فِى مَا أُوْحِى إِلَى مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ..."، وهو موقوف على ابن عباس. فدل الحديث النبوى، وحديث ابن عباس على أن هذه المنطقة متروكة (قصدا) من الله تبارك وتعالى، عفوا وتوسعة على عباده، ورحمة بهم، من غير نسيان منه، (لا يَضِلُّ رَبِّى وَلا يَنْسَى) كما جاء فى الحديث الآخر الذى رواه أبو ثعلبة الخشنى عن النبى صلى الله عليه وسلم (أن الله حد حدودا فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها)، رواه الدارقطنى وذكره النووى فى الأربعين النووية الشهيرة، وحسنه، وهو يؤكد ما ثبت بحديث أبى الدرداء المرفوع، وحديث ابن عباس الموقوف، وما أيده الاستقراء، وهو: أن الشارع الحكيم لم ينص على كل شىء، بل هناك أشياء ترك النص عليها مطلقا، وأشياء نص عليها بإجمال على وجه كلى، وأشياء نص عليها بالتفصيل المناسب لها. وبالاستقراء عرفنا أن ما يتغير بتغير الزمان والمكان والإنسان تغيرا كليا وجذريا ترك الشارع النص عليه، وهو منطقة (العفو) التى تحدثنا عنها، وهى متروكة لاجتهاد العقل الإسلامى، يشرع لها ما يناسب زمانه ومكانه فى ضوء النصوص ومقاصد الشريعة العامة. وما يتغير بعض التغير نص عليه بإجمال دون تفصيل، بما يضع المبادئ ويؤسس القواعد، ويدع التفصيلات لاجتهادات المسلمين. وما لا يتغير كثيرا بتغير الزمان والمكان والإنسان، مثل: شؤون الأسرة، والجرائم الأساسية؛ هو الذى جاءت فيه النصوص وفصَلت فيه الأحكام. فإذا قلنا (ما لا نص فيه) احتمل أن يكون معناه: ما ليس فيه نص أو دليل قط أو ما فيه دليل على وجه كلى، مثل النص على الشورى فى قوله تعالى (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)، وقوله: (وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ)، فإن هذين النصين لم يبينا؛ من هم الذين يستشارون؟ وكيف يختارون؟ وفيم تكون مشاورتهم؟ وما الحكم إذا اختلفوا فيما بينهم، أو اختلفوا مع ولى الأمر... إلخ. وكثير من أدلة الشرع يأتى على هذه الصورة من الكلية والإجمال فيقرر (المبدأ) أو (القاعدة) ويترك التفصيل والتطبيق لاجتهاد المجتهدين، وهذا من رحمة الله تعالى بالناس، وتوسعته عليهم؛ لأنه سبحانه لو ألزمهم بنص جزئى تفصيلى، لوجب عليهم أن يلتزموا به بمقتضى عقد الإيمان: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ...). وإذا ألزمهم بأمر مفصل فسيكون مناسبا لعصرهم وبيئتهم وظروفهم، ومعنى هذا؛ أنه يجَمدهم فى تلك الصورة الملائمة لمكانها وزمانها، والتى قد لا تصلح لزمان تال، ولا لبيئة أخرى. والنص- بهذا المعنى الذى شرحناه - يشمل ما يعرف عند الأصوليين فى أقسام الواضح الدلالة من نصوص الكتاب والسنة، وهى: الظاهر، والنص، والمفَسر، والمحكم، على تفاوت فى وضوح دلالتها على الحكم الشرعى، ابتداء بالظاهر، وانتهاء بالمحكم، الذى لا يحتمل تأويلا أو نسخا. وعلى ذلك فإذا اجتهد الإمام، (الحاكم أو السلطة التشريعية بالمفهوم المعاصر) وأعمل رأيه فى هذه المنطقة التى لا نص فيها، ولا يوجد فيها كتاب ولا سنة، فرأيه معتبر، ما دام مبنيا على أساس سليم من أسس الاجتهاد: من قياس على أمر منصوص عليه بموجب العلة الجامعة، أو عمل بالاستحسان فى موضعه، أو بالمصلحة بشروطها، أو بسد الذرائع، أو بمراعاة العرف، أو غير ذلك مما هو معروف لأهل الاجتهاد. وبهذا تبطل حجة أعداء الشريعة الذين ينسبون إليها النقص ،وما النقص إلا فى عقولهم. أما الأمر الذى ورد فيه نص شرعى ولكن هذا النص يحتمل وجوها عدة فى التفسير فسنعرض له فى المقال القادم إن شاء الله تعالى، لنرى ما يجب على السلطة التشريعية فعله إزاء اختلاف التفاسير، وهى بصدد إصدار قانون لا يخالف الشرع.