اخترق تعنى تغلغل أو توغل فى شىء ما.. واخترق أرضًا تعنى أنه جَعلَها طريقًا له، ولأغراضه وحاجته.. واخترق تاريخًا تعنى أنه نفذ بين صفوف المؤرخين للسيطرة على ماضى معين، أو دولة معينة، أو أمة من الأمم.. فالاختراق بشكل عام هو القدرة على الوصول لهدف معين، بطريقة سهلة وغير مشروعة.. عن طريق إحداث ثغرات فى نظم الحماية التى ابتدعتها أمة من الأم، للحفاظ على تاريخها وماضيها من سيطرة الآخرين على هويتها وانتماءاتها وعلاقاتها الخارجية ونظمها الداخلية.. من خلال إنفاذ نظم تأويل ونظريات معينة مطلوب سيطرتها بعناية على مؤرخى تلك الأمة أو ذاك.. فالتاريخ المخترق يُقصد به هذا التاريخ الذى يتعرض للأضرار على يد المؤرخين من أبنائه، عبر قبولهم للصياغات النظرية والمنهجية التى يمليها عليهم الآخرون.. وربما كانت الثغرات الموجودة فى نظم إعداد المؤرخين عندنا، وتلك الثقوب الموجودة فى أساليبنا وآلياتنا فى كتابة هذا التاريخ، تشكل بوابات كبيرة لإتمام عملية الاختراق هذه، بشكل كامل وغير مكشوف. ورغم أن هناك عشرات الندوات التى أقيمت حول الإنجازات التى حققتها المدرسة المصرية فى مجال الدراسات التاريخية، إلا أنها فى مجال تاريخنا المحلى والقومى ما تزال مقصرة فيه بشكل كبير. صحيح أنها بين الآونة والأخرى تعيد تقييمها للدراسات التى أنجزتها لتتبين معالم الطريق، إلا أن التقدم المذهل فى الدراسات والاتجاهات التاريخية فى الغرب يجعلها مقصرة فى متابعة هذا التطور من كافة الزوايا، وفى مختلف العصور والاتجاهات.. فكلما تكتشف طريقًا لهذا الخرق، وتقطع شوطًا كبيرًا فى رتقه، إلا أنها فى كل مرة تقف مبهورة أمام نظم جديدة، لا تستطيع استيعاب أهدافها ومخاطرها بسرعة ناجزة.. لذا فإن السؤال الذى يطرح نفسه، هل تاريخنا مخترق؟ أم أن ظروفنا السياسية والاقتصادية قد فرضت على مؤرخينا أن يتبنوا اتجاهات سياسية معينة، وظفوها فى قراءة التاريخ دون قراءة المشهد السياسى العام؟.. فهل الاتجاهات اليسارية والليبرالية فرضت على مؤرخينا اتجاهات دون أخرى؟.. أم أن ظروف التحولات السياسية المصرية، من حكم ملكى لجمهورى، ومن رباط كولنيالى استعمارى لمشرع قومى عربى، هى التى فرضت عليهم نظريات بعينها فى قراءة تاريخهم الوطنى؟. أربعة مشاهد نضعها للإجابة عن سؤال المقال المركزى: المشهد الأول، حين ترى عددًا ليس بالقليل من مؤرخينا يتبنون النظريات الفرنسية وقراءة المؤرخين الفرنسيين لتاريخنا.. فهم يؤمنون بأن فرنسا هى التى غيرت الأوضاع فى مصر، وهى التى ساهمت فى تقديم نموذج الحداثة الأوروبى.. وأن التاريخ المصرى قبل الحملة الفرنسية سنة 1798 كان لا يوحى بوجود أى ملمح من ملامح النهضة التى جاء بها الفرنسيون.. وعلى هذا جرى تقديم الدولة العثمانية على اعتبار أنها أحد أدوات التخلف، ومعول من معاول الهدم، حتى قدم الفرنسيون كمخلصين فأيقظوها. المشهد الثانى، يختص بعملية التحولق حول الفترة البريطانية فى مصر، وبأن البريطانيين هم الذين صنعوا الحداثة والتقدم فيها.. وأن الفرنسيين لم يستمروا فى حكمها إلا ثلاث سنوات وكلها حروب، ومن ثم لم يتمكنوا من إحداث أى نهضة فيها.. وعلى هذا يتم تقديم البريطانيين على أنهم صناع الحداثة والتقدم المصرى بلا منازع. ليجعلوا فريقًا من مؤرخينا يتعصبون بطريقة غير مباشرة للفترة الليبرالية التى سبقت ثورة يوليو 1952، باعتبارها نموذج الحداثة الرئيسى فى مصر، وأن ما عداها إنما هو تخلف وتبعية. المشهد الثالث، يتمثل فى الاختراق الأمريكى لكلا النظريتين السابقتين.. فدخول الأمريكان على خط التاريخ المصرى، جعلهم يتبنون وجهة نظر مختلفة تخدم سياستهم فى المنطقة.. فرأوا أن الحداثة لم تتم، لا على يد الفرنسيين، ولا على يد الإنجليز، وإنما لها جذور محلية فى التراث الإسلامى.. وأن القرن 18 كان يبشر بجذور نهضة محلية هى التى هيأت الظروف لمحمد على، ومهدت له الطريق لتبنى مشروعه فى الحداثة.. وعلى هذا برزت طموحاته الاستقلالية فى إقامة الدولة الوطنية المصرية، بملامحها المميزة عن العثمانيين.. باعتبار أن مصر كانت مهيئة على يد أبنائها لوحدهم للسير فى هذا الطريق.. وعلى هذا يتم البحث عن المصريين، وفصلهم عن هويتهم العربية والإسلامية وعن كل الأنظمة السياسية والفكرية التى حكمتهم عبر العصور.. فمصر الباحثة عن الاستقلال فى فترة العثمانيين هى الهدف الرئيسى فى نظرهم، أما الأتراك فهم مصدر التخلف على طول الخط.. وعلى هذا ضمن الأمريكان خرقًا كبيرًا فى منطقة الشرق الأوسط، رتبوه بعناية ليضمنوا ابتعاد المصريين عن الأتراك بصفة مستمرة من ناحية، وليضمنوا قبولًا لسياستهم بعيدًا عن الفرنسيين والإنجليز من ناحية أخرى. المشهد الرابع، يتلخص فى التأثير السوفييتى فى قراءة التاريخ المصرى، وضمان وجود فاعل ومؤثر لمؤرخى اليسار والماركسيين فى تفسير هذا التاريخ.. على اعتبار أنه صراع بين فقراء وأغنياء فقط، ضمانًا لتقسيم المجتمع، وصدامًا مع هويته الإسلامية، وفرصة سهلة للقبول بوجودهم فى المنطقة. كل تلك المشاهد تضعنا أمام مأزق حقيقى: فهل قرأ البعض تاريخنا الوطنى فى ضوء المدرسة الفرنسية؟ وآخر قرأه فى ضوء المدرسة البريطانية؟ أم فى ضوء المدرسة الأمريكية والسوفييتية؟ أم أن أعمال الترجمة، والمنح، ورعاية شباب المؤرخين، هو الذى خلق هذه الاتجاهات المتعددة؟ وهل اكتفينا بتعريب المناهج والنظريات التاريخية؟ أم أننا تبنينا محتواها ومضامينها؟ وهل ما يجرى عمليًا فى دراساتنا هو اختراق حقيقى؟ أم هو تحالف وجهل بالموضوع؟ هذه أسئلة كثيرة لا يستطيع مقال واحد، أو دراسة واحدة، أن تجيب عنها.. فالأمر يحتاج إلى تكاتف الجهود للنظر فيما قدمنا، ونقدم، من دراسات وبحوث حول تاريخنا الوطنى.. ولعل فهم المباراة الخفية بين الغرب بمفهومه الثقافى والفكرى الواسع، سوف يساعدنا فى جبر هذا الاختراق ورتقه مهما اتسع الخرق على الراتق. د. أحمد عبد الدايم محمد حسين- أستاذ مساعد التاريخ الحديث والمعاصر- جامعة القاهرة.