أثارت "استقالة" وزير الثقافة. فاروق حسني. جدلاً صاخباً. وصل إلي حد الانقسام والاحتقان في صفوف الجماعة الثقافية. لكن أغلب هذا الجدل الدائر.. خارج الموضوع. وعلي سبيل المثال فإن الحديث عن "إنجازات" فاروق حسني ليس هو بيت القصيد. بل هو تهرب من الإجابة دون لف أو دوران علي السؤال الأساسي التالي: هل يتحمل الوزير المسئولية عن محرقة بني سويف أم لا؟ اجتهادي في الإجابة عن هذا السؤال المحدد أن سيادة الوزير مسئول. وغني عن البيان أن مسئوليته ليست جنائية. وإنما هي سياسية وأدبية. ولأنها كذلك فإنه لا يجدر التمحك في الاعتبارات القانونية والتخريجات الفقهية والمذكرات التفسيرية. لأننا نتحدث عن مسئولية "أدبية" كما قلنا. وهذه المسئولية السياسية الأدبية راجعة إلي أن الوزير هو الرئيس الأعلي لوزارته بكل قطاعاتها. وأنه هو الذي يرسم سياساتها ويشرف علي تنفيذها ويراقب تطبيقها ويحاسب مرءوسيه بالعقاب والثواب علي أوجه التقصير أو أوجه الإنجاز. وبالطبع فإن المسئولية السياسية والأدبية للوزير أي وزير لا تتعلق بسفاسف الأمور. أو حتي بالأمور الإدارية الكبيرة التي يكفي معها التحقيق الإداري أو الجنائي. مثل اختلاس عشرات أو مئات الجنيهات. أو تبديد عهدة. أو تقاضي رشوة. وما إلي ذلك من المخالفات التي تحدث كل يوم في كل المرافق والمصالح والهيئات. وبالتالي فإنه من قبيل التنطع. والتزيد. إقحام المسئولية السياسية والأدبية لأي وزير في مثل هذه الحالات التي يكفي فيها خصم أجر بضعة أيام من رواتب عدد يزيد أو يقل من صغار الموظفين الغلابة. أو تحويلهم إلي التحقيق الإداري أو الجنائي. وهذا يعني أن الحديث عن المسئولية السياسية والأدبية لا يأتي في هذا السياق التافه. وإنما يأتي مرتبطا بأخطاء كبيرة ومصائب ناجمة عن خلل السياسات العامة أو الإهمال في متابعة تنفيذ أو عدم تنفيذ هذه السياسات. وهي بهذا المعني مسئولية لها جانب "تقديري". وإضافة إلي الجانب الأدبي المتمثل في الاعتذار للرأي العام عن المصيبة التي وقعت. فإن الاستقالة الوزارية كتعبير عن تحمل المسئولية السياسية تكتسب أهميتها من زاوية ثانية هي أن يتم التحقيق الجنائي بحرية ودون خوف من وجود الوزير واحتمال تأثيره علي مجراه. والسؤال الآن هو: هل ما حدث في قصر ثقافة بني سويف. التابع للهيئة العامة لقصور الثقافة. التابعة لوزارة الثقافة.. مجرد خطأ "محلي" من جانب موظفي قصر بني سويف أم أن هذا الخطأ. الذي أدي إلي كارثة إنسانية وثقافية. ناتج بدوره عن إهمال جسيم من القيادات العليا وغياب للرقابة والإشراف الجدي؟ الإجابة عن هذا السؤال لا تحتاج إلي اجتهاد من عندياتنا.. بل جاءت علي لسان الوزير فاروق حسني نفسه. الذي اعترف واعترافاته مسجلة بالصوت والصورة بأنه شخصيا يتحمل المسئولية من أكثر من زاوية. هو والقيادات العليا لوزارته. وعدد هذه الزوايا ابتداء من الموافقة علي اختيار قصر ثقافة بني سويف كمكان لهذا المهرجان المسرحي. وانتهاء بالإهمال الجسيم في تجهيز هذا القصر وغيره من القصور بعوامل الأمان الضرورية. إذن.. من يحاول الدفاع عن الوزير فاروق حسني من هذه الزاوية. ويحاول أن يجد له مخرجا أو مهربا من تحمل المسئولية السياسية والأدبية عن هذه البلوي.. سيضع نفسه في موضع بالغ الحرج.. لأنه باختصار سيكون ملكيا أكثر من الملك "فاروق الثاني".. فالوزير نفسه اعترف بمسئوليته.. وهذه نقطة تحسب لصالحه ويستحق التحية عليها. وهذا ما فعله الأديب الكبير نجيب محفوظ عندما أشاد بخطوة استقالة الوزير قائلا: إنها ذكرته بالتقاليد السياسية العريقة التي كنا نعرفها في الماضي ثم اندثرت بغير رجعة كما كنا قد تصورنا "لاحظ ان نجيب محفوظ يستخدم تعبير "التقاليد السياسية العريقة" في وصفه للاستقالة كتعبير عن تحمل المسئولية السياسية والأدبية. مما يعني أن مطالبتنا بتحمل الوزير أي وزير لمسئوليته السياسية والأدبية ليست بدعة".. وأضاف "لقد أعادني فاروق حسني إلي عصر الممارسة الديمقراطية في شبابنا.. وتذكرت محمود باشا شاكر الذي كان مدير عام السكك الحديدية فقد حدث أن وقع حادث لقطار بسبب إهمال أحد الخفراء الذي نعس في إحدي الليالي أثناء نوبة عمله فلم ينتبه لضرورة إغلاق المزلقان عند مرور القطار. ولقد أحس شاكر باشا علي الفور بمسئوليته الأدبية والسياسية عن الحادث. فلم ينتظر أن يستقيل الوزير الذي كان يتبعه بل بادر هو بالاستقالة. وحين سُئل قال: إذا قصر موظف بالسكة الحديد في عمله حتي ولو كان خفيرا فأنا المسئول. وعلي كل مسئول أن يتولي مسئوليته". هذا هو الدرس الذي أعطاه نجيب محفوظ لنا فيما يتعلق بالمسئولية السياسية دون لف أو دوران. ودون فذلكة قانونية. فهل حادث القطار الناجم عن غفلة عامل المزلقان أخطر مما حدث في قصر ثقافة بني سويف؟! وهل يعفي الوزير من هذه المسئولية السياسية أن له إنجازات؟ العكس هو الصحيح.. أن بقاء الوزير علي رأس وزارة الثقافة ثمانية عشر عاماً متصلة يحرمه من حجة عدم الإحاطة بمجريات الأمور. فهذه الفترة الطويلة غير المتاحة لأي وزير ثقافة آخر في العالم بأسره تجعله مطالبا بأن يعرف دبة النملة في دهاليز وزارته. وبهذا المعني.. فإن المسئولية السياسية والأدبية للوزير ثابتة.. والغريب أن يعترف بها هو ويتطوع المثقفون الذي وقعوا بيان المائتين برفعها عنه؟! أما القول إن المسئولية السياسية لا تقع علي عاتق وزير الثقافة وحده فهو قول صحيح. لكنه لا يؤدي إلي المطالبة بعدم قبول استقالة فاروق حسني. وإنما يؤدي الي المطالبة بإقالة أو استقالة الوزراء والمسئولين الآخرين المشتركين في المسئولية السياسية عن الكارثة. وبهذا المعني أيضاً.. فإن المشكلة ليست مع الوزير. لأن الرجل قدم استقالته وإذا كانت هناك مشكلة مع الوزير بهذا الصدد فهي متعلقة بالشتائم التي وجهها للمعارضين وتسفيهه لمواقفهم وتشويهه لنواياهم وأهدافهم. فضلاً عن تراجعه السريع عن الاستقالة بصورة أعطت للكثيرين الحق في استنتاج أنها كانت استقالة استعراضية. المشكلة الحقيقية مع الذين لم يهتموا بدماء ضحايا محرقة بني سويف قدر اهتمامهم بإبقاء فاروق حسني علي كرسي الوزارة وكأن الثقافة ستصبح يتيمة ولن تجد من يرعاها إذا رحل فاروق حسني. والأنكي أن هذا التشبث العجيب بالوزير. جاء متناقضا مع أشواق المصريين للتغيير. الأمر الذي يعني رحيل الحكومة بأسرها وليس وزير الثقافة وحده. وبدلا من أن يتجاوب المثقفون الموقعون علي بيان المائتين مع أشواق التغيير وجدناهم يناورون ويهرولون ويبحثون عن فتاوي قانونية شكلية لتبرئة ساحة أحد أعضاء هذه الحكومة من مسئوليته الأدبية عن واحدة من أبشع الكوارث الإنسانية والثقافية. والسؤال لهؤلاء الزملاء والأساتذة: هل كنتم ستتخذون نفس الموقف لو أن أحدكم. أو ابنكم. أو بنتكم. أو أحباءكم. كان في قلب هذا الجحيم لا قدر الله؟! ----- صحيفة الجمهورية المصرية في 29 -9 -2005