رُبما كنتُ أكثرَ الناس سَعادةً بهذا العَرْض الشيق "كفر الأخضر" بمسرح الفن – جلال الشرقاوي، الذي دعاني لمشاهدته المُبدع الصديق الأستاذ على الغريب مؤلف المسرحية؛ فقد وجدتُ هناك تنظيراتي التي كانت محل استخفاف من كثيرين! فقد تجاسَر أبطال هذه الفرقة المسرحية الواعدة على مُغالبة جميع التحديات، بإمكانيات مادية محدودة وبطاقات إبداعية متدفقة، وبإيمان بالقضية هائل، وبفضل هذه الجهود وبعد كل ما شاهدناه نستطيع القول إن الحلم آخذ في التحقق. هذا الفريق المَسْرحي المُتجانس صنع شيئين عظيمين للفن؛ فقد أعاد لذاكرة المصريين وذاكرة خشبات مسارح مصر العملاقة نبضَ وإبداعَ وحِسَ عمالقة الفن المسرحي الهادف الراقي؛ وما يقدمه مبدعو فرقة "يناير تياترو" ليس جديدًا على المسرح المصري الذي بُني أساسه وقامت أركانه على احترام ذائقة الجماهير ومشاغبة عقولهم، لا مخاطبة غرائزهم، وعلى استثارة حماسهم واستنهاض هممهم للمعالي وصناعة الأمجاد، لا للتسلي وتمضية الأوقات بحوارات المراهقين وإيفيهات المصَاطب والمواخير وعُلب الليل. هم يقومون بعمل عظيم؛ وهو بعثُ الوجه المُشْرق للمسرح المصري، ليعانق من جديد أشواق المصريين للنهوض والتقدم، وليتبنى قضاياهم الحقيقية، وليُقوى عزائمهم ويُوقِظ وعيهم فى وَجْه التحديات. الأمر الثاني الذي لا يقل أهمية هو تفعيل نظرية الفن الإسلامي وترجمتها بعروض حية، ليلتقي الفكر والمنهج الإسلامي حياً متحركًا أخيرًا برواد المسرح وعشاق الفنون الذين طالما انتظروه وافتقدوه لأسباب يعلمها الجميع. وهذا ضروري جدًا في مرحلة يكثر فيها الْحَاح الفُرَقاء المُبَطن بالتهَكُم؛ أنْ أيْنَ فنكم، وأين عروضكم، وأين مُبدعوكم؟! وعرض "كفر الأخضر" وما سبقه من عروض، لفرقة مسرحية تتبنى النهج والخط الإسلامي وتعتنق رسالة الإسلام في الفن ويرعاها حزب بمرجعية إسلامية، ويديرها فنانون ومبدعون ذوو خلفية إسلامية، فهذا رَد أظنه قويًا في وجه مَنْ شككوا في إمكانية بُزوغ فجر المبدعين الإسلاميين. وأظن أن هذه الخطوة تحمل رسالة في الاتجاه المقابل، رداً على المُشككين والمُتربصين لهذه التجربة من داخل البيت الإسلامي نفسه، ممن يرفضون بالكلية فكرة التمثيل والسينما والمَسْرح! ومن نعنيهم يتبنون تقديم الرُؤية الإسلامية للآخرين بالطريقة التقليدية؛ بحيث يُقدَم فكرًا وسُلوكًا وعقائد ومفاهيم في قالب واحد وبأسلوب واحد، وعلى الجميع قبول ما نقوله طائعين مقهورين! ونسُوا أن أرْوعَ ما في ديننا أنه منهج فاتح مُتحرك – لا سُكوني - مُشتبك في كل الميادين والاتجاهات، ومع كل زمن وفي كل مكان. وأنه كما قال كلمته في النظرية الاقتصادية والنظرية الحضارية والسياسية والعقائدية، فلابد وأن يقول كلمته أيضًا في نظرية الإبداع والفن. وكما قال كلمته في المسجد والبرلمان والشارع والبيت والميْدان، فلابد وأن يقول كلمته في الإعلام والسينما والمسرح. أثارَ هؤلاء الفنانون الرائعون بالفعل حَمَاستي القديمة للقضية، وشعُرْتُ وأنا مستغرق في المشاهدة أنني لم أكن وحدي ولستُ ضعيفًا بدون سند أو ظهير. وقد قلنا قبل ذلك إن أسلحة المواجهة تغيرت ولابد من امتلاك أدوات العصر، لا أن نظل رافعين سيوفنا القديمة. والقرآن الكريم نفسه فعل ذلك عندما واجَه أساطين البلاغة قديمًا بإعجاز البيان واللغة، هو يواجه اليوم رواد الثورة العلمية وأحدث ما توصل إليه العقل البشري من اكتشافات في ميدان العلم، بإعجاز آخر وأسلوب آخر وهو الإعجاز العلمي والكوني والحجج العقلية، والقرآن هو القرآن لا يتغير، لكن الذي يتغير هو أساليبه وأدواته في المواجهة بحسب الآليات والأساليب السائدة. والسائد اليوم هو الثورة العلمية والمَد الفنى والإبداعي، فليس من المنطق ولا العقل مخالفة طبيعة المرحلة ونواميس التطور وفرض منطق مرحلة على مرحلة أخرى بدون مبرر. ما قيلَ في مسرحية " كفر الأخضر" بعيدًا عن القضية المُثارة، والذي سمعته أنا من خلف أصوات المُمثلين وربما لم يسمعه الجمهور، إننا هنا – كمبدعين إسلاميين نسْعى لفن هادف راق يبنى ولا يَهْدم – نخطو بقوة وعزيمة في بداية الطريق، نقبض على جذورنا وننطلق من ثوابتنا، نتنفسُ من رِئات مئات الأجيال ونرى بعيون الملايين ممن سبقونا، لكن في داخل ميادين السباق الممتلئة بالفرقاء المناوئين، ولا نقف نصارع طواحين الهواء في الحَارَات والميادين التي خلت وهَجرها الناس قبل سنين. وللحديث عن العَرْض وقفات أخرى أن شاء الله.