أكثر كلمة نتناولها في خطابنا السياسي هي الديمقراطية, وفي الوقت ذاته هي أقل كلمة نلتزم بها في التطبيق.. وهذه مسألة بالغة الخطورة, لأنها أصدق تعبير عن الانفصال الملموس بين القول والفعل.. مما يطلق عليه البعض ازدواجية السلوك, بل وازدواجية القيم.. والمسألة ربما ينبغي أن تشغل بوجه خاص قوي المعارضة, ذلك انها تواجه في مصر معادلة صعبة.. انها متنوعة ايديولوجيا.. متعددة تنظيميا.. ومنقسمة فيما بينها.. وللانقسام مصادر عديدة, منها التباينات بسبب الدين, ومنها بسبب الموقف السياسي, ومنها بسبب الموقف الاجتماعي..الخ, وقد قررت المعارضة أن ترفع شعار الجبهة الوطنية سبيلا للحد من تناقضاتها الداخلية.. وعلي اعتبار ان ثمة شيئا يجمعها, هو العداء للحزب الوطني الديمقراطي الحاكم.. وانه بالامكان جعل ما يجمع بين اطرافها أكثر قوة ومتانة مما يفرق بينها.. ولكن السؤال المطروح أمام المعارضة هو: من أين نبدأ؟.. وكيف نتحرك؟ إن التنوع الايديولوجي يولد الشك في استقامة الغير الفكرية.. والتعدد التنظيمي يزيل الشفافية في التعامل مع الاطراف الأخري.. والانقسام يقف عقبة في وجه تبادل الرأي الخالص.. فكيف مع مثل هذه التناقضات بناء جبهة؟.. وكيف جعلها أكثر متانة من كيان تنظيمي مؤلف من حزب واحد بقيادة مركزية؟.. الي أي حد للديمقراطية دور في حل هذه المعادلة الصعبة, سواء كان ذلك في صفوف المعارضة, أو حتي في الحزب الحاكم؟.. الي أي حد من الممكن ان يكون للديمقراطية فضل في ازالة التناقضات, اذا طبقت تطبيقا صحيحا؟.. هل من مرجعية للديمقراطية؟ إن الادارة الأمريكية تعلق علاقتها بمصر علي ما تصفه هي بالتطبيق السليم للديمقراطية.. ذات تجارب اختيرت عبر العصور.. ومن مقتضيات هذا التطبيق ألا يوجد في السجون مسجونون أو معتقلون سياسيون.. وان يوضع حد للتعذيب وسوء المعاملة.. وفي نفس الوقت, ان تخضع واشنطن المعتقلين المتهمين بارتكاب أعمال ارهابية لعمليات اذلال واهانة وتعذيب تفوق الخيال.. وما هذه المعتقلات الا تلك التي تسربت عنها انباء.. فكيف الحديث عن الديمقراطية الأمريكية؟ وفي مصر, سجن سعدالدين ابراهيم, وسجن أيمن نور, وامتنعت وزيرة خارجية أمريكا عن زيارة مصر مادام أيمن نور لم يطلق سراحه.. وهكذا من الواضح أن الخلاف حول الديمقراطية وكيف تطبق أو لا تطبق مسألة كانت, في أكثر من مناسبة, كفيلة بتعكير الجو بين الدولتين.. الديمقراطية.. مظهر أم جوهر؟ يبدو من الأسهل, في ظروف كثيرة, الظهور بمظهر احترام الديمقراطية, بينما يجري انتهاكها بشكل أو بآخر, ملتو أو فج.. ولكن ما يبدو محققا لمكسب في الأمد القصير, انما ينتهي بعكس المراد في الأمد الأبعد.. ثمة شواهد, في أرجاء مختلفة من الأرض, عن أفراد عزل صمدوا في وجه المغريات, وجبروت السلطات, وتعرضوا لشتي الوان التنكيل وسوء المعاملة, ولم يرضخوا.. وفي النهاية ثبت ان سلوكهم كان هو الصحيح.. وأذكر علي سبيل المثال حالة الكاتب المسرحي التشيكي فاسلاف هافل, الذي سجن سنوات طويلة, ثم نشأت ظروف فجأة جعلته رئيسا للجمهورية!.. والزعيم الاسطوري الهندي غاندي, والمناضل المقاوم البولندي ليخ فاونسا.. بدوا في كفاحهم انهم قد خرجوا لتحقيق حلم مستحيل المنال.. ولكنهم من فرط التصميم قد انتصروا في النهاية.. أليست هذه نماذج تدعو الي التأمل؟.. وربما لدينا في مصر نموذج لهذه النوعية الفريدة من المناضلين, متمثل في موقف طبقة بانتظام, وبكل تواضع, في أخطر الأمور وفي أبسطها.. أحمد نبيل الهلالي.. نجل رئيس وزراء مصر مرتين في عهد الملكية.. لقد اشتهر الهلالي باحترامه المفرط للديمقراطية, وحتي بشكليات القانون, لدرجة انه, خلافا لسائر زائري موسكو الأجانب فيما قبل انهيار الاتحاد السوفيتي, كان يرفض بتاتا ان يفعل ما كان يفعله من بوسعه أن يفعله, وهو تغيير العملة في السوق السوداء.. قد تبدو المشكلة تافهة, ولكنها تعبير عن موقف مبدئي!.. وعن اتساق بين القول والفعل.. كان يري في هذا التصرف انتهاكا لسلوك مدني سليم, ولا يجوز خرقه ايا كانت الظروف.. لم تكن المشكلة في الخسارة المادية, وانما في السلوك الاخلاقي.. وما انسحب هنا علي الصغيرة انسحب علي الكبيرة, وعلي الاستقامة في التصرفات عموما.. بل أزعم ما هو أبعد مدي.. أزعم ان التطبيق الدقيق للديمقراطية علي صغائر الأمور, انما هو مفتاح تطبيقها علي كبائرها, علي القضايا المصيرية, وتغيير وجه السياسة جذريا.. ديمقراطية أكثر أصالة ومما ينبغي ادراكه ان الديمقراطية التي تتحقق عن طريق الانتخاب, هي ديمقراطية أكثر اصالة وارقي نوعيا من تلك التي تتحقق عن طريق الاستفتاء, ذلك ان الشخصية المركزية التي يجري انتخابها في حالة الاستفتاء هي شخصية رئيس الدولة.. بينما في حالة الانتخاب فإن الجهة التي بيدها الكلمة الأخيرة هي مجلس الشعب بمجمل اعضائه, لا شخص الرئيس وحده فقط.. ثم ينبغي أن ندرك أن تكنولوجيات عمليات الانتخاب تتقدم باستمرار.. واصبح متاحا الآن بالكمبيوتر متابعة عمليات حسابية بالغة التعقيد في اقل من ثوان.. ولنا في هذا الشأن رئيس للحكومة شديد الاهتمام بهذا الموضوع. ثم بفضل التكنولوجيا, اصبح متاحا الآن إعمال الروادع والحوافز ضد الذين لا يرغبون في اجراء انتخابات صحيحة, أو يريدون مناوءة حسن ادارة العملية الانتخابية لسبب أو لآخر, بصورة أو أخري.. ذلك بينما من المراد المزيد من المبادرات في هذا المجال.. لم يعد يجوز التذرع بحجة ان منظوماتنا مازالت متخلفة او قاصرة لتبرير عدم القيام باللازم في هذا الصدد.. ثم في ظرف نتحدث فيه عن القرية الذكية, لا يستقيم ان يكون لنا أي عذر في عدم تطويرنا ما نملكه من أجهزة كمبيوتر الي أبعد حد.. ولا يجوز استمرار الفجوة بين الكمبيوتر كأداة نستخدمها في مجال التشريع, وبين استخدامه لاغراض أخري. لا يصح إلا الصحيح إن الديمقراطية من أكثر القضايا السياسية التباسا.. وهي أيضا من أكثرها عرضة للمغالطة, وللتلاعب بمقدراتها, وبتصويرها علي غير حقيقتها.. وفي المقابل علينا أيضا تأكيد أنها, اذا ما طبقت تطبيقا صحيحا, فإنها كفيلة بصنع المعجزات.. الصعب هو ان نصل بالمجتمع الي مستوي صنع المعجزات.. والا تجرفنا المغريات, فيفوتنا قطار الاصلاح!.. ونسقط ضحايا اعداء الديمقراطية الألداء.. أي انعدام الشفافية, وتجاهل المحاسبة, واغفال المساءلة.. ولكن اذا ما استقرت للديمقراطية تقاليد عمل راسخة, فانها تقفز بالمجتمع من التخلف الي العصرية.. وترسي أسس المجتمع المدني وحكم القانون.. وتتصدي بحكم طبيعة آلياتها, للفساد والانحراف.. انها اللبنة الأولي في درب الاصلاح القويم.. -------------------------------------- صحفة الاهرام 9-10-2005