د. بشير موسي نافع ما شهده العراق، خلال الأسبوع الأول من هذا الشهر، فيما يتعلق بتصويتي الجمعية الوطنية علي البند الخاص بالاستفتاء علي الدستور كان غريباً بكل المقاييس. خلسة، وبدون الإعلان عن الجلسة ومجرياتها، أقرت الجمعية الوطنية المؤقتة تعديل قانون إدارة الدولة، معرفة الناخب تعريفين مختلفين في فقرة واحدة، وجاعلة شروط إقرار مسودة الدستور أكثر سهولة وشروط رفضه مستحيلة تقريباً. الغرائب في هذه الخطوة متعددة. فقانون إدارة الدولة هو صنيعة الاحتلال، ولم يوضع أصلاً لاسترضاء الرافضين للدستور بل لتعزيز النظام العراقي الجديد. ولذا فإن تعديله لمواءمة المزيد من رغبات القوي المتحالفة مع الاحتلال يعني ان هذه القوي تمر في مأزق كبير، مأزق أكبر مما توقع واضعو قانون إدارة الدولة أنفسهم. وتعديل القانون في شكل سري، وفي معزل عن الرأي العام العراقي، وبسرعة لم يتوقعها أحد، يدل علي ان فهم أعضاء الجمعية الوطنية للعملية الديمقراطية هو فهم لا علاقة له بالعملية الديمقراطية، لا في الشرق ولا في الغرب. ولأن التعديل يستهدف إجهاض أي معارضة متوقعة لمسودة الدستور، ويجعل من إقرار المسودة تحصيل حاصل مهما بلغت هذه المعارضة، فهنا مؤشر آخر علي نهج الاختلاس الذي يقام عليه العراق الجديد. بعد كل التدافع الذي شاب غزو العراق واحتلاله، لا يمكن وصف مشروع الغزو والاحتلال إلا بالاختلاس. المبررات التي وضعت لتبرير الغزو، والتي تغيرت بين مرحلة وأخري؛ التجاهل الصارخ للجان التفتيش ولمجلس الأمن ورغبة المجتمع الدولي؛ والإدعاء بأن مجموعة من المعارضين العراقيين الذين عاشوا في المنفي أكثر مما عاشوا في العراق يمثلون الشعب العراقي، عبر كله عن نهج الاختلاس الذي ارتكز إليه غزو العراق واحتلاله. ولم ينته الاختلاس عند الغزو والاحتلال، فما ان أطيح النظام والدولة العراقيين حتي سلمت مقاليد البلاد لمجموعة من القوي والشخصيات التي لم يعرف أغلب العراقيين (بل ولا يزالون يجهلون) لماذا هم علي وجه التحديد، ما هو سجلهم التاريخي الذي يؤهلهم لقيادة العراق، وأي إنجاز حققوه في ميادين الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان، ما دامت هذه هي القيم التي يفترض ان تؤسس للعراق الجديد. ولم يخيب هؤلاء الظن، ففي فترة قصيرة من مشاركتهم في إدارة العراق المحتل ارتكبوا واحدة من أكبر عمليات الاختلاس التي شهدها العراق، أوأي بلد آخر، في التاريخ الحديث. طبقاً للتعديل الذي أقرته الجمعية الوطنية، يحتاج إقرار مسودة الدستور لموافقة خمسين في المئة من المقترعين وشخص واحد، أما رفض المسودة فيحتاج ثلثي من يحق لهم التصويت في ثلاث محافظات، بغض النظر عن عدد من أدلي بصوته فعلاً من هؤلاء. أي ان الناخب في حالة الإقرار هو من يقترع، أما في حالة الرفض فهو المسجل علي جداول الناخبين. ولا يحتاج هذا التعديل الغريب كبير ذكاء لفهم دوافعه. فهناك إحساس واسع ان أغلبية السنة العرب سيرفضون مسودة الدستور في صورتها الحالية، وهم الذين يشكلون أغلبية مطلقة في ثلاث محافظات علي الأقل. لمحاصرة حق العرب السنة أو غيرهم، في رفض الدستور، كان لابد من تحويل معيار الرفض إلي معيار تعجيزي. والحقيقة ان الاختلاس لم يكن سمة تعديل القانون فقط، بل كان أصلاً سمة عملية كتابة مسودة الدستور. فبعد الكثير من البلاغة حول حق العراقيين جميعاً في المساهمة في كتابة الدستور، والبلاغة الإضافية حول ضرورة مشاركة العرب السنة في العملية، أختيرت لجنة كتابة الدستور من غير العرب السنة. ثم أضيف عدد من ممثلي الأخيرين إلي اللجنة بعد ان استشعر المسؤولون الأمريكيون الكثير من الحرج بسبب غياب التمثيل السني العربي. وما ان أضيف هؤلاء إلي اللجنة حتي أغتيل أحد أقوي أصواتهم، ثم أكملت اللجنة عملها بدون الإنصات إلي اعتراضات الباقين. أنجزت العملية من بدايتها خلسة، وجاء التعديل السري ليقول ان إقرار المسودة سيتم هو الآخر خلسة. التعديل طبعاً لم يصمد طويلاً، إذ سرعان ما اكتشف رجال الأممالمتحدة المفترض إشرافهم علي العملية الانتخابية ان التعديل لا يتفق وقانون إدارة الدولة، وانه تعديل متناقض وغريب. ولم تجد الجمعية الوطنية الانتقالية من سبيل إلا الاجتماع من جديد، وخلال أيام قليلة، للتخلي عن التعديل. نفس الذين صوتوا علي التعديل، قاموا بالتخلي عنه. المدهش ان بين هؤلاء رجال دين وجامعة وعلم، وان أغلبهم كان ممن يعيب علي النظام السابق استخدامه البرلمان العراقي لإضفاء الشرعية علي ما أراد من سياسات وقوانين. وكان مشهد هؤلاء مضحكاً بلاريب وهم يصوتون علي النص وإلغائه خلال أقل من أسبوع، وكأن الدستور، الوثيقة الأساسية للأمم الحديثة، مجرد إلعوبة يمكن تمريرها علي هذا النحو أو ذاك، وفي غياب هذا الطرف من أطراف الشعب العراقي أو ذاك. فكيف يمكن الثقة في هكذا ممثلين للشعب، وفي الدستور الذي تعهدوا كتابته؟ بالرغم من ذلك كله فليس من المستبعد إقرار الدستور في الاستفتاء المقرر له منتصف الشهر. فطبقة سياسية لا تجد غضاضة في القيام بما قامت به الأسبوع الماضي لا يمكن ان تؤتمن علي أصوات الناس، من سيقول منهم نعم ومن سيقول لا. ولكن ما يجب ان يستدعي التساؤل هو العقلية التي تفترض ان من الممكن بناء عراق جديد خلسة، وبالرغم من فئة واسعة من العراقيين. ما يجب ان يسأل هو هل ان بالإمكان فعلاً بناء العراق بقهر ملايين العرب السنة بقوة وبطش الآلة العسكرية الأمريكية، وسيطرة تحالف كردي شيعي علي السياسة ومقاليد الحكم. الحقيقة التي لا يمكن إنكارها أو تجاهلها ان العراق المحتل هو عراق منقسم علي ذاته. سواء خططت إدارة الاحتلال لذلك مسبقاً أو انها لجأت لسياسة فرق تسد لتأمين سيطرتها علي البلاد، فقد أقام بريمر قواعد النظام الجديد علي أساس الانقسام الطائفي والإثني. ولا يمكن تحميل بريمر الوزر منفرداً؛ فقد ساهمت القوي السياسية المتحالفة مع إدارة الاحتلال مساهمة مباشرة في توكيد الانقسام العراقي وإدامته. المشكلة ان الأمم لا تقام علي الانقسام، ديمقراطية كانت أو غير ديمقراطية، ودستورية كانت أو غير دستورية. ليس ثمة نظام ديمقراطي واحد، بما في ذلك الديمقراطيات الكبري، إلا وتجتمع قواها السياسية المختلفة وأقوامها وفئاتها الدينية علي ثوابت جامعة. وفي حين ان الدستور ليس شرطاً لوجود الدول واستقرارها، كما هو حال بريطانيا والدولة العبرية، حيث لا وجود للدستور، فإن دولة واستقرارا لا يقومان بدون ثوابت مشتركة وجامعة. المشترك، الثوابت الجامعة، القاعدة الإجماعية، هي التي تؤسس الدول، ولا دولة مستقرة في ظل الانقسام والصراع الداخليين، أو في ظل قهر فئة إثنية أو سياسية أو طائفية للأخري. ما تعرض له العراق خلال الأعوام الثلاثة الماضية كان هائلاً بكل المقاييس. تعرض العراق لغزو عسكري طاحن، اطيحت دولته، وفرض عليه نظام حكم جديد. ولم تنته معركة العراق بعد؛ فمهما كان الرأي في المقاومة العراقية وقواها المختلفة فالعراق مازال ساحة حرب فعلية، تدور رحاها من البصرة والكوت إلي الأنبار والموصل. وفي حين يرفض قطاع كبير من العراقيين الاحتلال وما تمخض عنه، فإن عراقيين آخرين ربطوا مصيرهم بمصير الاحتلال ويطالبون علناً وصراحة ببقاء قواته إلي أمد غير مسمي. ثمة عراقيون تحطم منازلهم فوق رؤوسهم يومياً، عراقيون بالآلاف يقبعون في السجون والمعتقلات، وعراقيون آخرون يعيشون في حراسة قوات الاحتلال ورعايتها. ثمة عراقيون مطاردون، وعراقيون آخرون يشاركون في مطاردتهم. بيد ان ما ينقسم حوله العراقيون ليس الموقع والخيار السياسي فحسب، بل أيضاً توجه العراق المستقبلي، عقيدة دولته، انتماؤه ودوره وموقعه الإقليمي. وليس العراق وطناً هامشياً صغيراً حتي تغيب عن شعبه وقواه المسائل الكبري للهوية والدور والموقع. عندما تتحرك قوي سياسية بدوافع التقسيم الإثني والطائفي، بدوافع تقويض انتماء العراق العربي وتجاهل الهوية العربية لشعبه، وبدوافع إخراج العراق من دوره الإقليمي وميراثه القومي، بينما يطالب عراقيون آخرون بالحفاظ علي هوية العراق العربية وميراثه القومي، مهما شاب هذا الدور والميراث من شوائب، ويطالبون بالحفاظ علي وحدة العراق كوطن ودولة، وبأن يستمر العراق في ممارسة دوره الإقليمي التقليدي، فهناك حالة انقسام عميقة تحتاج إلي علاج ومواجهة. لا تقيم الدساتير إجماعات الأمم بل تعكس هذه الإجماعات، وتؤكد علي ضرورة حراستها، وتضع قواعد ووسائل إعادة النظر فيها كلما تقدم الزمن وتغيرت السياقات التاريخية وشروطها. وما شهده العراق في عملية كتابة الدستور لا يشير إلي أي من هذه القيم والمفاهيم. ما شهده العراق هو الإسراع في كتابة مسودة دستور تعكس الانقسام الداخلي وتؤسس لإدامته؛ دستور يخدم أهدافاً أمريكية سياسية آنية، ورغبات سياسيين عراقيين قصيري النظر لا يدركون معني الدستور وأسسه، تحركهم رغبات السيطرة والهيمنة أو فرط وحدة البلاد. كتابة الدستور وإقراره، كما انتخابات الجمعية الوطنية المؤقتة، هي مسألة ملحة للسياسة الأمريكية وسعيها للتوكيد علي نجاح المشروع العراقي وتقدم العملية السياسية فيه، في وقت يواجه هذا المشروع فقدان ثقة شعبية أمريكية، وشماتة دولية وإقليمية لا تخفي. العراقيون لم يخرجوا إلي الشارع للمطالبة بالدستور، وليس ثمة عراقي عاقل واحد يري الدستور علي رأس جدول أولوياته، في وقت تعيش البلاد حالة من الموت والدمار المستمرين. وكتابة الدستور وإقراره هي مسألة ملحة لمن يعتقدون، بسذاجة يحسدون عليها، ان بالإمكان اختلاس السيطرة علي العراق من قواه الوطنية، ومن محيطه العربي والإسلامي. وإن فشل مشروع السيطرة، فالتقسيم، مهما جر التقسيم من كوارث. ليس الدستور، بالطبع، حلاً لأزمة العراق أو أزمة محتليه أو مديريه الحاليين. أجواء الانقسام التي ولدت منها مسودة الدستور ستتفاقم بعد التصويت علي المسودة، بغض النظر عن ما ان كانت النتيجة هي الرفض أو الإقرار. ومسلسل العنف الذي يشهده العراق ليس مرشحاً للتوقف بعد يوم الاستفتاء. وفشل الطبقة السياسية الطارئة في تطهير صفوفها من اللصوص والناهبين، في حل مشاكل العراقيين اليومية، أو في الحفاظ علي أمنهم، لن يتحول فجأة إلي نجاح بعد يوم التصويت علي المسودة. ما يحتاجه العراق، وتصرخ جنباته يومياً من أجل تحقيقه، هو إعادة بناء الوحدة والإجماع. ومنذ ولدت الدولة الحديثة عرف تاريخها طريقين لبناء الوحدة والإجماع: التفاهم الداخلي السلمي، أو انتصار رؤية ما بالقوة والعنف . القدس العربي