أحمد إسماعيل عادت قضية (مثلث أبيي) إلى صدارة الحدث السياسي في السودان مرة أخرى، لتشكل واحدة من معضلات السياسة السودانية، و مهدداً من مهددات استمرارية الشراكة السياسية بين طرفي الحكم في السودان، و ربما مهدداً من مهددات السلام نفسه.. فخلال جلسات الاجتماع المشترك بين المكتب القيادي للمؤتمر الوطني و المكتب السياسي للحركة الشعبية الذي جرى الأسبوع المنصرم، تحدث قائد الحركة سلفاكير ميارديت عن عراقيل تواجه تطبيق اتفاق السلام، محملاً المؤتمر الوطني مسؤولية أيجادها، و على رأس هذه العراقيل كانت موقف المؤتمر الوطني من قضية (مثلث أبيي)!!. وكانت الحكومة قد رفضت التعامل مع تقرير الخبراء الأجانب في اللجنة التي تكونت بموجب اتفاقية نيفاشا لترسيم حدود أبيي، حيث جاء تقرير الخبراء قاضياً بتعية المثلث للجنوب متجاوزاً بذلك حدود المديريات الموروثة بعد الاستقلال عام 1956م، و التي كانت مرجعاً أساسياً بنيت عليها اتفاقية نيفاشا ترسيم حدود الجنوب.. و تبرر الحكومة رفضها بأن اللجنة قد تجاوزت صلاحياتها.! وليس هذا فحسب بل يبدو أن أبيي مرشحة لتكون باباً آخر لتدخل دولي جديد في الشأن السوداني.. فمجموعة الأزمات الدولية أصدرت تقريراً قالت فيه (إن موقف المؤتمر الوطني من قضية أبيي يشكل تهديداً مباشراً للسلام).. و إن "حزب المؤتمر الوطني لديه القدرة على التنفيذ لكنه يفتقر الى الارادة السياسية حيث تملك الحركة الشعبية لتحرير السودان الالتزام لكنها ضعيفة ومفككة." و بغض النظر عن؛ من أخذ عن الثاني؛ (سلفاكير)أم (مجموعة الأزمات)! فإن تواطؤ الإثنين على تحميل المؤتمر الوطني مسؤلية عرقلة السلام، و اعتبار موقفه من أبيي موقفاً سالباً، يعطي مؤشراً إلى أن منطقة نزاع جديدة في طريقها إلى الظهور في مستقبل السودان السياسي، و لن يكون ذلك النزاع بأقل من نزاع دارفور أو الشرق.. و أبيي هي مثلث غني بالنفط و الغاز الطبيعي و المعادن و المياه، يتبع إدارياً لجنوب كردفان و لكنه يمتد جغرافياً إلى داخل بحر الغزال في الجنوب.. و تسكنه قبيلتان.. أحداهما عربية و هم (المسيرية)، و الأخرى زنجية و هم الدينكا المعروفون ب(دينكا نقوك).. و عندما رسم المستعمر الإنجليزي حدود مديريات السودان بعد سقوط الدولة المهدية ط! لب أهل أبيي- و على رأسهم زعماء (دينكا نقوك)- إلحاق المنطقة بجنوب كردفا ن، و كان ذلك في العام 1905م. و كانت أبيي واحدة من المناطق التي انسحبت إلى الحلبة الملتهبة في النزاع بين الشمال و الجنوب، حين استطاع جون قرنق أن يجتذب بعض أبناء المنطقة إلى التمرد ضمن حركته و جعلهم في دائرة المقربين له، و حين بدأت المفاوضات بين الحكومة و الحركة، كانت أبيي من أشد مناطق الخلاف عنفاً و حساسية، الأمر الذي جعلها تنفرد ببرتوكول خاص ضمن بروتوكول ميشاكوس، ثم ضمن بنود نيفاشا..حيث قضت الاتفاقية بمنح المنطقة حق الاستفتاء على تقرير مصير تبعيتها للشمال أو الجنوب خلال فترة حددها الاتقاف، و تم تشكيل لجنة لترسيم حدود المنطقة و النظر في وثائق الطرفين من أجل حسم موضوع تبعيتها في الفترة ما قبل الاستفتاء.. و تم تطعيم اللجنة بخبراء دوليين (أجانب).. ثم جاء تقرير الخبراء الأجانب قاضياً بتعبية المنطقة للجنوب.. رغم اعترافه بعدم توافر الوثائق!!.. و يقول أحد أعضاء اللجنة و هو عبدالرسول النور – قيادي سابق بحزب الأمة و أحد قيادات العرب المسيرية- إن الخبراء الأجانب أصدروا تقريرهم دون الرجوع إلى اللجنة المكلفة!!.. رفضت الحكومة تقرير الخبراء، كما رفضه العرب المسيرية و اعتبروه محاولة لان! تزاع أرضهم التي استوطنوها قبل أكثر من ثلاثمائة عام، حتى قبل مجئ الدينكا نقوك الذين ألجأتهم حروباتهم مع القبائل الزنجية بل حتى مع فروع الدينكا الأخرى إلى الاحتماء بهم في هذه المنطقة، و يقول المسيرية أنهم استضافوهم ، و تعايشوا معهم في سلام طيلة تلك القرون حتى اندلعت حرب الجنوب الأخيرة حيث استدرجت الحركة بعض أبناء المنطق من الدينكا للتمرد، و هم اللذين زجوا بالمنطقة في دائرة الصراع.. بينما يصر أبناء دينكا نقوك في الحركة على أن المسيرية جاءوا لاحقاً بعد استيطان أجدادهم.. و لكنهم لا يقدمون وثيقة واحدة تدل على أسبقية وجودهم التاريخي في تلك المنطقة، بينما يقدم المسيرية دلائل تاريخية متمثلة في معارك خاضوها في تلك المنطقة مع سلاطين كردفان في القرن الثامن عشر.. مشكلة المنطقة أنها غنية إلى حد التخمة بالثروات الطبيعية، الأمر الذي يفتح شهية المتدخلين الدوليين، و خاصة أمريكيا و بريطانيا، و لهذا يحرصون كل الحرص على إلحاق المنطقة بحكومة الجنوب، لتكون لهم اليد الطولى في التصرف بهذه الثروات!!..و لكن الأمر من شأنه أن يفتح باباً للشر لا يعلمه إلا الله، فالمسيرية أعلنوا صراحة أن الموت دون أر! ضهم.. و حين صدر تقرير الخبراء ثاروا في جميع مناطقهم، إلى الدرجة أن زعم ائهم قد أخطروا رئيس بعثة الأممالمتحدة (يان برونك)- حين أزمع على زيارة منطقة (المجلد) في كردفان- أنهم غير مسؤولين عن سلامته إذا ما وطئت قدماه أرض المجلد!!.. و بعد المفاوضات والوساطات لم يقبلوا أن يقابلوه إلا لساعات معدودة في المطار و على متن الطائرة دون أن تطأ قدماه الأرض!.. إن مشروع نزاع جديد يتم الترتيب له من قبل القوى الدولية التي أصبحت متحكمة في الشأن السوداني، و لكنه الآن في طور التجميد إلى حين الفراغ من المناطق التي تشغل الساحة الآن.. و لقد كان الخطأ الأساسي في بروتوكول ميشاكوس أن الطرف الحكومي قبل باستثناء أبيي عن حدود 1956م التي حكمت العلاقة بين الشمال و الجنوب، و وافق على التعامل مع المثلث وفق وضعية خاصة، و بروتوكول خاص.. و لم يدر أولئك المفاوضون أنهم أسسوا لنزاع جديد.. وحين يتعلق الأمر بالناس و الأرض، خصوصاً في ظل التركيبة القبيلية الموجودة في أبيي فأن الأمر ينبئ عن أحداث قادمة لايعلم مداها إلى الله.