أفضل حالات الاصلاح هو ان يحدث بقناعة ومباركة الأنظمة الحاكمة من خلال شراكة تقوم بين هذه الأنظمة وشعوبها سؤال كبير ومحير خاصة اذا ما طبق على العالم العربي. فالعالم كل العالم يتغير الا منطقتنا العربية التي لم ينلها من موجات صموئيل هانتنجتون الثلاث قطرة تغيير واصلاح. بل باعتراف هانتنجتون في كتابه “الموجة الثالثة” واعتراف كذلك منظمة “بيت الحرية” غير الحكومية في تقاريرها السنوية، فإن الانظمة في العالم العربي هي من اكثر الانظمة في العالم رفضا للتغير والاصلاح السياسي. لذلك يتساءل الواحد منا: لماذا لا تتشجع الانظمة العربية على ادخال اصلاحات سياسية على بلدانها طالما ان العالم يتغير في حين اننا مازلنا نراوح مكاننا؟ الكثير قد يقال حول هذا الموضوع ولكننا قد نجد في مقولة الفيلسوف السياسي الفرنسي اليكس دي توكوفيل اجابة اكثر واقعية وان كانت عامة وشمولية. فقد ذكر دي توكوفيل في كتابه “انظمة دي توكوفيل القديمة” (1933) بأن “اكثر اللحظات خطورة للحكومات السيئة هي بشكل عام عندما تبدأ بالاصلاح”، بمعنى آخر ان الحكومات تخشى الاصلاح السياسي لأن في ذلك خطراً عليها قد يؤدي بها في اغلب الاحيان الى فقدان سلطتها وصلاحياتها وفي احيان اخرى قد يؤدي بها الى فقدان السلطة من يدها بشكل كامل. لذلك تخشى الأنظمة اينما كانت وبما فيها الانظمة العربية الاصلاح. ولعل ابرز مثل في الوقت الحاضر عما يمكن ان يأتي به الاصلاح من ضرر على النظام الحاكم هو ما حدث للاتحاد السوفييتي، القوة العظمى التي كانت تنافس الولاياتالمتحدة في فترة ما قبل نهاية الحرب الباردة. فالنظام السياسي في الاتحاد السوفييتي والمتمثل في قيادة الحزب الشيوعي وبالذات في شخص امينه العام ميخائيل خورباتشيف لم تتمن بادخالها اصلاحات سياسية واقتصادية تقويض سلطة الحزب الشيوعي في البلاد. بل على العكس لم يكن جورباتشيف ضد الاشتراكية على الاطلاق وانما كان ضد النهج الذي انتهجه ستالين، فأراد ان يغير ذلك النهج الى نهج جديد ويجدد من دماء الحزب الشيوعي وسياسته لتتماشى مع ما كان لينين قد اراده للنهج الشيوعي السوفييتي ان يسير عليه. لكن ما ان سمح جورباتشيف بسياسة الانفتاح واعطى الحرية للمواطن ووسائل الاعلام حتى بدأ الحزب الشيوعي يفقد سيطرته على البلاد وبدأت جموع الشعب بفئاته المختلفة تطالب بادخال اصلاحات اكبر ومنح حقوق اوسع وضرورة الاسراع في عملية الاصلاح. هذا الأمر جعل البلد يخرج من سيطرة الحزب الشيوعي ونهجه ويطلب بادخال نهج جديد منهيا بذلك اكثر من سبعين سنة من سيطرة الحزب الشيوعي على مختلف جوانب حياة المجتمع السوفييتي، ويرمي بعظمة “امبراطورية” كان لها شأن كبير في تسيير شؤون العالم. والأمثلة في العالم كثيرة ولا تتوقف فقط عند المثل الروسي لكن أهمية هذا المثل تكمن في انه يعرض حالة دولة عظمى من المفترض ان تكون اكثر الدول مقاومة للتغيير. لذلك فمثل هذه التجربة تعطي مثلا بارزا لما يمكن ان تؤول اليه حالة الانظمة في العالم العربي وفي غيره من دول العالم اذا ما بدأت مثل هذه الدول في اتخاذ اصلاحات سياسية في بلادها. فاصلاحات الاتحاد السوفييتي لم تقلل من صلاحيات وسلطات الحزب الشيوعي بل انهتها بشكل كامل. وهذا ما تخشاه انظمة دول العالم الاخرى، حيث إن الاصلاح لديها اصبح مرادفا للتغير، فلو فكرت جديا في ادخال اصلاحات على دولها فإن ذلك سيعني نهاية سيطرتها على الحكم بشكل كامل أو شبه كامل على اقل تقدير، وبالتالي يتراجع نفوذها وقوتها. لذلك فمثل هذه الدول لا ترغب في الاصلاح، وان رغبت فإنها تبقيه على درجاته الشكلية الى اقصى حد ممكن. وهنا تدخل هذه الانظمة في اشكاليات كثيرة مع مجتمعاتها من جهة ومع عالمها الخارجي من جهة اخرى. فمجتمعاتها تريد ان تكون لها حقوق في المشاركة السياسية تماما كما يحدث لمصلحة شعوب دول اخرى قد تكون مجاورة لها، اما العالم الخارجي فلن يكف عن النظر نظرة دونية لمثل هذه الانظمة باعتبارها انظمة دكتاتورية ومستبدة، وبالنظر الى مجتمعاتها باعتبارها غير متحضرة. وقد تستغل هذا الوضع ذريعة لتنفيذ سياسات ضد مثل تلك الانظمة. ويحدث في هذا الاطار كذلك الكثير من الجدل حول كيفية احداث التغيير، هل يحدث من الداخل ام من الخارج، أم من الاثنين معا. وعليه ينشب صراع داخلي بين قوى التغيير وقوى المحافظة على الوضع القائم. ويتم كذلك لعب ورقة الخارج من الجانبين. فقد تستخدم قوى التغيير الدول الفاعلة في النظام الدولي للضغط على انظمتها لادخال اصلاحات، وقد تستخدم الانظمة الدول الفاعلة كغطاء للمحافظة على الوضع القائم لديها عن طريق تلبية ومسايرة طلبات مثل تلك الدول. وتستمر الدوامة في دائرة قد تكون كبيرة جدا في بعض الاوقات وقد تكون مغلقة في أوقات اخرى. لذلك فالفهم الصحيح للاصلاح الذي يجب ان ينطلق في عالمنا يجب ان يكون مرحليا ولا يأتي بالشكل الذي أتى على الاتحاد السوفييتي ونظامه الحاكم. بل على العكس، انظمتنا الحاكمة يجب ان تكافأ على ادخالها للاصلاحات السياسية وليس ان تعاقب اذا ما اردنا ان نكسر حاجز دوران تلك الدوامة في الدائرة الكبيرة أو المغلقة. فيجب ان يمارس كل ما يمكن ان يؤدي الى تشجيع الانظمة على الاصلاح السياسي وليس العكس. فالسماح مثلا للرئيس بتمديد فترة رئاسته، أو اعطائه الحق في دخول الانتخابات لفترة اخرى جديدة، أو منحه صلاحيات ملكية كلها امور اذا ما جاءت في اطار تعهد النظام بتقديم اصلاحات سياسية في ذلك البلد فهي أمور ايجابية ويجب ان لا ننظر اليها على انها سيئة. فالتغيير لا يمكن ان يأتي بين يوم وليلة وانما بحاجة الى اصلاح أولا وقبل كل شيء، وفي عالمنا العربي حيث تتوغل الانظمة في كل صغيرة وكبيرة فإن افضل حالات الاصلاح هو ان يحدث بقناعة ومباركة الانظمة الحاكمة من خلال شراكة تقوم بين هذه الانظمة وشعوبها. --------------------------------------------------- الخليج الاماراتية السبت 22 أكتوبر