ما أضيق القلب العربي، حين يظله يوم الخامس من يونيو المشؤوم، إذ ينطفئ نبراسه، وتتعطل أنفاسه، و يتبلد ضميره وإحساسه. فشهر يونيو، من بين الأزمنة والشهور، هو حلقة الشر الكبرى، في سلسلة الهزائم العربية التي ظلت تتوالى على أوطاننا، فمثلت الحدث المشؤوم، على سقوطنا، في أسوأ معاني السقوط. وإذا لم يكن من الممكن، مجاراة بعض فلاسفة الزمن منا القائلين بشؤم الزمان وفأله، لأننا نميل إلى حقيقة أن الزمان آلة في يد الإنسان يصنع بها الخير أو الشر، فإننا لا ننكر أن للزمن بصماته، وآثاره في حياة الكائنات ولا سيما الكائن البشري. وقد عودنا الإنسان العربي بشكواه من قسوة الزمن وآهاته و من لياليه، حيث تمتلئ أشعاره، وأغانيه، وأمثاله، لكن في الزمن لحظات حضارية، لا دخل للإنسان المواطن فيها. ومن هذه اللحظات، اللحظة الشاهدة على معاركنا، والمسجلة لهزائمنا، والدالة على انهيارنا.. ففي ذاكرتنا التاريخية، الحضارية العربية، تلفح وجوهنا، تلك الهزائم النكراء التي دخلنا حروبها بغير إعداد أو عدّة، ودون عزيمة أو شدّة، فلم نصمد في إدارة رحاها إلا أقصر مدّة. وإن أخطر ما في هذه الهزائم العربية أن آثارها لا تزال تتضاعف، وأن أسبابها لا تفتأ تتكاثف - غير أننا مازلنا محكومين – بالرغم من كل ذلك – بذهنية الهزيمة، من أشباه ملوك الطوائف. كلما حل شهر يونيو كرمز لأم الهزائم تتملكنا قشعريرة الشعور بالألم والندم، على درس غير مستفاد، وخطإ فادح يتكرر ويعاد. نحن في عصر الهزائم المتتالية، أشبه بالأعزل في القافلة، أو بالحمل ، وسط الذئاب الضارية، إن اليأس يكاد يلفنا من جميع الجهات، وإن الإحباط ليوشك أن يلقي بنا في عالم الأموات، لولا بصيص من القوة كامن في المقاومة السرية، ووميض من الأمل يلوح من عملية إخصاب الذرة المحصنة بالعزيمة الحديدية، والإراده الفولاذية. لقد انقلبت المفاهيم في وطننا العربي، فلم يعد للمنطق السياسي أي وجود، وصار كل معني للفحولة والرجولة في حكم المفقود....استنوق الجمل في حياتنا، واستحال الأسد إلى لبؤة في عداد قواتنا.. فمتى تنتفض الأمة فتزيل عن وعيها آثار الوهن، وتمزق عن كيانها ما يكبله من كفن الأموات، وعفن التشردم والشتات؟ فأنى أجلت نظرك في خارطة الوطن العربي صدمتك ذهنية القطيع التي استبدت بالشعوب، وروح الإنهزامية في الحاكم المركوب. ففي فلسطين، ضارب ومضروب، الحكم فيه للحكَم المحتل المختل.... وللسلطان المدجن المذل. وفي العراق، يسود منطق لا غالب ولا مغلوب في معركة تدور بين سالب الوطن بالقوة وبين شعب مقاوم يدافع عن حقه المغصوب، ويحكم ذلك كله منطق معكوس ومقلوب. إنها الملهاة والمأساة اللتين يعاني تبعاتهما أنصار الوحي المنزل الذي هو القرآن، في مواجهتهم لقوة التصهين، المعلمن، القائمة على الإفك والبهتان... فبسبب الغار الذي يجلّل نفوسنا، والعار الذي يسوّد جباهنا، خربت بغداد والبصره، على رؤوسنا، ودمرت الآثار، والديار بفعل تيوسنا. لقد فعل فينا المعوقون منا، والمخلفون من الأعراب ما لم يفعل العدو بعدوه، حتى صرنا – في عصر العولمة والديموقراطية، تحكمنا دساتير الغاب، وتطبق علينا قوانين الظفر والناب. كلما أوقد الطغاة المحتلون نارا للحرب، باسم الديموقراطية المظلومة، وأنزلوا صواعقهم على شعوبنا المقيدة المحرومة، انبري من بيننا عملاء مأجورون، ينشدون التزكية باسم الاصلاح، ويزايدون على ثوابتنا إمعانا منهم في الإبقاء على الكراسي، بحماية الاجتياح، وباسم الانفتاح. إنه ليل مظلم قاتم السواد، هذا الذي طرد النور من دنيانا منذ أم الهزائم التي مرغت جيوشنا في الوحل، وأصابت وتيرة حياتنا بكل أنواع الذبذبة والخلل. إن الوطن العربي مصيخ بآذانه إلى أية معجزة، في عهد انتهت فيه المعجزات .... إنه في انتظار أي إرهاص بظهور المنقذ المخلص الذي يجمع الناس على الحب، ويحمل المجتمع على طاعته بالعدل، فيحمي الحقل بالعقل الذي تسنده القوة، والبذل، ويعيد لدنيانا الجديبه المظلمة الرتيبه، خيط من النور فقدناه، وشبرا من الوطن أضعناه، وقليلا من الكرامة دفناه... فيالله لوطن كل حياته تسلب، وجل خيراته تنهب، وكل ثوابته تغصب إن شهر يونيو عابس الأيام، محلولك الساعات، شهر فيه يتجدد أنيننا، وتتصعد آهاتنا و من حقنا أن نسأل أنفسنا، ما الذي حول نهارنا إلى ليل، وفرحنا إلى ويل، و الزعيم الذي يقودنا إلى ذيل، فتصاممنا عن نداء الشهداء ، وعصينا أوامر العلماء الزعماء، واتبعنا أراذلنا من السفهاء؟ لقد خسرنا كل الحروب، وما كسبنا الصلح، فكيف نقنع شعوبنا التي أجهدها رعد الحرب وبرقه، وأفزعنا وابل الغمام وودقة، وما وعت مضمون الخطاب السياسي ولا رهطه؟ فيا أيتها الهزائم النكراء المتجددة في عروقنا لقد سئمنا لسع الذكريات وحريقها وإننا نتوق إلى وهج الحياة وبريقها، فمتى توقظنا الهزيمة من الغيبوبة العميقة، فنعيد إلى القدس، ويافا، والبصرة وبغداد المحجة والطريقة. ربّاه إننا مللنا الهزائم وصانعيها، فمن علينا، بمن يبعث نشوة النصر ، في امتنا فينعشها ويحييها ومن ينسينا ذكرى سلسلة الهزائم ويمحو الدمع من جفون أمتنا ومآقيها. استاذ جامعي جزائري [email protected]