فى سياق الحرب التى شنها النظام الفاسد البائد ضد الإسلام وتشريعاته وقيمه تحت مسمى محاربة الإرهاب، كانت قضية الحسبة فى الشريعة الإسلامية من أبرز القضايا التى ألح عليها أعوان النظام من الكتاب والصحفيين ومثقفى الحظيرة. وكان ذلك بمناسبة دعوى التفريق بين نصر حامد أبى زيد وزوجه بسبب ما وجه إليه من اتهام يخص تفسيره وحكمه على القرآن الكريم بأنه منتج تاريخى، أى ليس وحيًا منزلاً من عند الله، ولكنه صناعة مجتمعية صنعها الناس على امتداد الزمان لأسباب شتى!. كانت إحدى المحاكم قد قضت بالتفريق بين نصر وزوجه، ولم يتم تنفيذ الحكم لأنهما رحلا إلى الخارج وعملا هناك، ولكن الحكم أثار ثائرة أعوان النظام البوليسى الفاشى وطالبوا بإلغاء قانون الحسبة الذى كان يتيح للمواطنين أن يلجأوا للقضاء حين يرون وضعًا مخالفًا للشريعة الإسلامية كى تفصل فيه، واستطاع القوم أن يسحبوا هذا الحق من المواطنين ليكون قاصرًا على النائب العام أو وكلائه إذا رأى فيما يقدم إليه ما يستحق أن يعرض على القضاء! القوم لم يكتفوا بسلب المواطنين لهذا الحق ولكنهم يصرون على إلغائه تمامًا، وخاصة فى مجال ازدراء الإسلام والعدوان عليه وإهانة الأنبياء والصحابة رضوان الله عليهم بالقول أو الفعل أو الكتابة، ولا تكاد تأتى مناسبة ثقافية هنا أو هناك حتى يطرحون قضية الحسبة وضرورة إلغائها لأنها ضد حرية الفكر والتعبير والفن والإبداع حسب مزاعمهم، ففى معرض فيصل للكتاب الذى انعقد فى رمضان الماضى مثلا قال مسئول ثقافى: سنناقش قانون الحسبة وحريات الفكر فى معرض فيصل للكتاب لأنها قضية تشغل المثقفين والمفكرين، وأضاف: أنه لا بد أن تتم إعادة النظر فى مثل هذه القوانين التى تعيق حريات الفكر والإبداع، وأن تفتح هذه الملفات مرة ثانية، وأن تشهد معارض الكتاب مثل هذه النقاشات المهمة! وزعم آخر أن كاتبة أبلغته أنها تسلمت إخطارًا يفيد برفع دعوة حسبة جديدة ضدها، مشيرًا إلى أنها تسلمت الإخطار، وأنه من المفترض أن تمثل أمام النيابة، وقال المذكور: إن رئيس الجمهورية المنتخب أمامه تحدٍ كبير خلال الفترة المقبلة، خاصةً فى ظل المؤشرات التى تدل على أن المفكرين والمبدعين سوف يواجهون العديد من قضايا الحسبة، وتهم ازدراء الأديان!. ومشكلة أعوان النظام الفاسد أنهم يريدون أن يثبتوا وجودهم واستمرارهم عن طريق الهجوم على التشريعات الإسلامية، وتطويع الحياة الاجتماعية والسياسية لنزواتهم وشطحاتهم، وتفسيراتهم الفجة والقاصرة لمفاهيم الإسلام، فضلاً عن قطع كل الألسنة التى تلهج بالإسلام أو تذكره.. إنهم يريدون محوه تمامًا ويأبى الله. إن نظام الحسبة فى الإسلام يعد من الأنظمة المتقدمة التى تجعل من المجتمع قائمًا على تصحيح أوضاعه أولاً بأول، والحرص على تنمية عناصر الخير والإحسان فى أرجائه، إنه نظام اجتماعى يختص بالرقابة والتشريع تحت عنوان الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، لكل ما يندرج تحت المعروف ويدخل فى دائرة المنكر، وخاصة فى القضايا الكبرى التى تخص المجتمع وتؤثر فيه إيجابًا أو سلبًا، وقد وضع الفقهاء المسلمون مفاهيم وشروطًا لمن يقوم بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، تضبط المسألة وتحدد درجاتها لكى يتحرك المسلمون كل فى إطار قدراته وإمكاناته وفقا لقوله تعالى: "وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (آل عمران:104) وقوله تعالى: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ..." (آل عمران:110) وقوله- صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان". ونظام الحسبة ليس مرتبطًا بنظام أو مرحلة أو حاكم من الحكام، ولكنه مسئولية إسلامية مفتوحة بوصفها فرض عين عند معظم الأئمة والفقهاء أو فرض كفاية يتقرب به المسلم إلى ربه ليواجه أشرار المجتمع الذين يسلبون الناس الحرية أو الكرامة أو الأمل، أو يعتدون على القيم والحرمات والحقوق العباد. إنها ليست قاصرة على مراقبة الأسواق والأسعار والحمامات والحلاقين وخدام المساجد والمؤذنين؛ كما يتخيل فقهاء الشيوعية الذين صاروا يفتون بغير علم، وجعلوا من أنفسهم أصحاب عمائم تفسر القرآن وتشرح الحديث وتعلم الناس الحلال والحرام، ولكن الحسبة نظام عام لمقاومة المنكر فى أى مستوى والحض على المعروف فى كل الأحوال. إن بعض أعوان الاستبداد ومثقفى الحظيرة يظنون أن الحسبة مرتبطة ببعض الأنظمة التى تطبقها فى إطار جزئى، وتستخدم العنف البدنى أحيانًا ضد المخالفين، ولكن الحسبة أكبر من ذلك بالتأكيد أنها منهج يعزز سماحة الإسلام وتعاطفه مع أفراد المجتمع، وفى الوقت نفسه يحمى هذا المجتمع من عناصر الأذى والانحراف وفقاً لضوابط غير مسبوقة فى التشريع الإنسانى. لقد اشترى عمر بن الخطاب رضى الله عنه أعراض المسلمين من الحطيئة الهجاء البذيء، بعد أن أخفق السجن فى تأديبه وتهذيبه، ولم يكن الرأى أو حرية الاعتقاد فى يوم ما عنصرًا من العناصر التى تهددها الحسبة فى التاريخ الإسلامى، ولكن من تعرضوا للمحاكمات أو الملاحقات كانوا يتحركون فى الملعب السياسى الذى تحكمه اللعبة السياسية على مدى التاريخ. إن الشيوعيين وأشباههم حين يزعمون أن الحسبة تقف ضد الإبداع؛ إنما يعبرون عن فشل ذريع وضعف شديد فى كتاباتهم وأعمالهم الفنية، والمفارقة أنهم يستخدمون الحسبة بالمعكوس للأمر بالمنكر والنهى عن المعروف، وتأمل مؤتمراتهم ومظاهراتهم ووقفاتهم التى يزعمون أنها من أجل حرية الإبداع، ولكنها فى حقيقة الأمر من أجل نشر الإباحية والابتذال والتسطيح والتجديف، وترسيخ جذور الشيوعية التى جفت فى بلادها! أيها الشيوعيون وأشباههم: الحسبة قيمة إنسانية عليا، فكونوا من أهل القيم الإنسانية العليا!