كمال حبيب عالم الروح هو ذلك العالم غير المحسوس الذي يمد النفس والجسد بكل الطاقات الحيوية للفعل والمواجهة والتحمل ، وهو عالم نشعر به ولا يمكننا الإمساك به ، هو عالم القوة غير المرئية soft ، وكانت الروح موضوعاً للبحث الدائم والتساؤل من جانب الإنسان والعلماء ، وحين سئل النبي صلي الله عليه وسلم عنها أجابه ربه بقوله تعالي " ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أو تيتم من العلم إلا قليلاً " ، وعلماء النفس يتحدثون عن النفس وعلماء الطب عن الجسد وعلماء الأخلاق والفلاسفة يتحدثون عن القلب والعقل وهل هما شئ واحد وهناك كتاب مهم جدا وجميل ورائع وفريد في بابه وهو كتاب " الروح " لا بن القيم وكنت قرأته من سنوات طوال وهو يتحدث عن الروح وعوالمها وحياتها وشعورها وإحساسها وبعد الموت هل تبقي وهل تحس وهل تشعر .. الخ مما يعد فريداً وجديدا ، وكان علم النفس الإسلامي يبحث دائماً ويتحدث دائما عن تعزيز الباطن والداخل وتطهيره باعتبار أن عالم الداخل وهو عالم الروح بالأساس هو مصدر الطاقة الفعالة التي تزود الإنسان والجسد والإرادة بمعين لا ينضب من الفعل الاجتماعي الخلاق . ومن هنا قول الله تعالي " وذروا ظاهر الإثم وباطنه " ، أي أن المطلوب الحقيقي هو ترك الإثم الباطن الذي يظل يراود النفس ويوسوس لها ، فالباطن مهم جدا وكل فعل ظاهر له علاقة بباطن الإنسان ، فلا يمكن لإنسان رجلا كان أو امرأة أن يسلك سلوكا ظاهرا لا يكون له علاقة بالباطن وعالم الروح بل نقول غير مترددين إن عالم الداخل والروح والباطن هو الذي يعطي للظاهر صورة الفعل فهو مرآة له بلا ريب ولا يمكن لإنسان أن يكون ظاهره جيداً وباطنه سئ أو العكس إلا إذا كان منافقا يظهر غير ما يبطن وهي عملية في غاية الصعوبة والتعقيد والفصام المروع المرعب والنكد . والدراسة الغربية الحديثة تجاوزت علوم النفس الباطنية أو مايطلق عليه " علم النفس التحليلي " وبدأت تركز علي العلوم السلوكية " وهي مدرسة تركز فقط علي الفعل الظاهر للإنسان وفقط بدون اكتراث بباطنه والذي وضع البواكير الأولي لها " بافلوف " الروسي ونظرية الارتباط الشرطي التي تبحث رد الفعل في علاقته بالمثير ربما تشرح المسالة ولكن" الإنسان ذلك المجهول " كما قال " ألكسس كارليل في كتاب مهم له مثلت بواكير الوعي بتعقد عالم الإنسان وهنا ظهرت مدرسة جديدة اسمها" مابعد السلوكية " post- behaviourism وهذه المدرسة أعادت الاعتبار للقيم الإنسانية وعالم الباطن وهي قريبة جدا من خلال مادرسته عنها من المدرسة الإسلامية ، وطالعت مدرسة هامة جدا في علم النفس وأذكر أنني طالعت كل ماطالته يدي عنها وهذه المدرسة اهتم بها الروس بشكل أساسي وطرحوا تطبيقات لها في العلاقات الدولية وعالم المخابرات وأسس لها في العالم العربي العالم العراقي الدكتور علي الوردي وهذه المدرسة هي " علم النفس الموازي " أي الروح وفعلها الداخلي المتجاوز لعالم المادة المنظور ولعلنا نتذكر ماقاله الفاروق – بأبي هو وأمي – رضي الله عنه لما قال لسيدنا سارية " ياسارية .. الجبل " أي الزم الجبل وكان ذلك في حروب الشام والفاروق في المدينة وسمعه سارية ، ونحن لنا عوالم عجيبة جدا للروح في حياة كل واحد منا وأنا شخصيا – لي في هذا الباب أشياء عجيبة جعلت الكثير من الأصدقاء وهم يرفضون لما أقوله في البداية ولكنهم يعودون فيرضخوا ليس هذا إدعاءً للكرامة ولكنه " نفاذ الروح " . بعد هذا التطواف الذي يبدو لي ثقيلا أقلب معني رمضان في رأسي لأنفذ أكثر إلي عالمه فيبدو لي أن عالمه هو عالم الروح بامتياز وعالم الداخل والباطن وتزكية الروح والنفس ، فهو عالم الإنسان في الداخل ، عالم التزكية والطهارة والنظافة الداخلية ، عالم السرائر والضمائر التي لا يعلمها إلا منشؤها ومبدعها الخلاق العليم ، وهو عالم نصيبه من اسم الله الأعظم " الباطن " الذي لا تخفي عليه خافية " ما يكون من نجوي ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدني من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا " ، عالم الإحسان وهو مرتبة الإيمان العظمي كما في حديث جبريل " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك " ، إنها حالة الحضور التي لا يرقي لها إلا أصحاب الهمم الإيمانية العالية الذي سبقوا بالخيرات والذي اصطفاهم الله ورضي عنهم . الصلاة عالمها مثلا له ظهور يراه الخلق ويشهد الناس بها للمسلم علي إسلامه وله نظام في الحركات والركعات والاصطفاف وغيره ولكن عالم الصيام هو عالم الروح وعالم السر وعالم الداخل والباطن الذي لا يفتقه إلا علام الغيوب الستار الرحيم . ولعل خفاء ليلة القدر واستتارها وجريانها في الليالي الأواخر من الشهر هو تعبير قوي جدا عن عالم الصيام وعالم العشر الأواخر وعالم رمضان عالم الروح المكنونة التي لا يكشف غيبها ولا سرها إلا خالقها . [email protected]