مرة أخرى يتبين للطبقة السياسية في الدولة العبرية، وقادة جيش الاحتلال أنه قد كان من السابق لأوانه إعلانهم الانتصار على المقاومة الفلسطينية. فعمليات المقاومة التي نفذت مؤخراً، سيما العمليتين اللتان نفذتهما حركات المقاومة مؤخراً بالقرب من " بيت لحم "، ورام الله ، وسط الضف الغربية تدلان بشكل لا يقبل التأويل على أنه على الرغم من حرص الدولة العبرية على استثمار تفوقها العسكري والتقني في مواجهة المقاومة، فضلاً عن توظيف التطورات السياسية الحاصلة على المستويات المحلية والأقليمية والدولية في هذه المواجهة، إلا أن آلة قمع الاحتلال تقف عاجزة عن إجبار الشعب الفلسطيني على القفز عن المقاومة كخيار أصيل لنيل حقوقه الوطنية. فأحداً من جنرالات جيش الاحتلال وكبار المعلقين في وسائل الاعلام الصهيونية لم يتخلف عن التعبير عن الشعور بخيبة الأمل بعدما تبين خطأ حساباتهم ورهاناتهم على عوائد القمع ضد الشعب الفلسطيني، واعتقادهم أن جذوة المقاومة ستخبو بعد تنفيذ خطة " فك الارتباط ". فعمليات المقاومة جعلت دوائر صنع القرار السياسي والعسكري في الدولة العبرية تدرك أن حديث قادة الجيش ورؤساء أجهزة المخابرات الصهيونية عن حسم المواجهة ضد حركات المقاومة بالذات في الضفة الغربية كان نتاج استنتاج مغلوط. والذي يثير إحباط ساسة " إسرائيل " وعسكرها هو حقيقة أن عمليات المقاومة وقعت في ظل جملة من الظروف بالغة التعقيد التي تعاني منها حركات المقاومة. فهذه العمليات وقعت في ذروة حملة أمنية شاملة تقوم بها سلطات جيش الاحتلال وجهاز المخابرات الداخلية الاسرائيلية " الشاباك " ضد عناصر حركات المقاومة , والتي طالت حوالي ألفا من قادة وكوادر حركات المقاومة وبشكل خاص حركة حماس، مع العلم أن سلطات الاحتلال تقوم بالزج بكل من تشتبه بأن له أي علاقة بحركات المقاومة في سجونها، وذلك ضمن استراتيجية " التحييد " التي يتبعها " الشاباك ". ويستهجن المعلقون الصهاينة من أن تتواجد في الضفة الغربية بنية تنظيمية لحركات المقاومة تكون قادرة على إخراج مثل هذه العمليات في الوقت الذي يدعي فيه " الشاباك " أنه نجح في تفكيك المزيد من خلايا المقاومة المؤثرة. من ناحية ثانية فإن أحدا من قادة جيش الاحتلال لم يستطع أن يبرر كيفية نجاح منفذي ومخططي هذه العمليات في تنفيذها في الوقت الذي تتواجد فيه قوات معززة من جيش الاحتلال وعناصر الشرطة. اللافت للنظر أن كبار المعلقين في وسائل الإعلام الصهيونية يدركون الرسالة التي تحملها هذه العمليات. فالصحافي روني شاكيد من صحيفة " يديعوت احرنوت " يرى أن حركات المقاومة الفلسطينية من خلال هاتين العمليتين تريد أن توجه رسالة لاسرائيل مفادها " كما أخرجناكم من غزة سنخرجكم من الضفة ". ولا يختلف المعلقون الصهاينة على أن هذه العمليات تثبت مرة أخرى أن اسرائيل فشلت في اختبار الردع في مواجهة حركات المقاومة. وبات من الواضح فشل الشعار الذي كان يرفعه رئيس هيئة الأركان السابق موشيه يعلون الذي كان يدعي أن اسرائيل نجحت في " لسع الوعي الجمعي للفلسطينيين وأقنعتهم بأنه ليس من المفيد محاولة دفع اسرائيل لتقديم تنازلات سياسية بالقوة ". مع العلم أن شعار" يعلون" هذا يتم ترديده من قبل الكثير من قادة جيش الاحتلال . اللافت للنظر أن هناك من المعلقين الصهاينة من اتخذ من هاتين العمليتين مبرراً لانتقاد شارون وحكومته لرفضه الاستعداد لدفع استحقاقات التسوية مع الفلسطينيين. فمثلاً اعتبر المعلق السياسي ومقدم البرامج الحوارية المشهور يارون لندن أنه بات في حكم المؤكد أن اسرائيل ليس بوسعها أن تعيش بسلام بدون أن تقوم بالانسحاب من الضفة الغربية، واعتبر أن بقاء المستوطنات هو بمثابة جرح نازف في جسم الدولة العبرية يتوجب أن يتم وضع حد لوجوده وللابد. اللافت للنظر أنه على الرغم من أن عدة تنظيمات فلسطينية أعلنت مسؤوليتها عن عمليات اطلاق النار، ومنها " كتائب شهداء الاقصى " و " صقور فتح "، و " كتائب بيت المقدس "، إلا أن جميع وسائل الاعلام الاسرائيلية نقلت عن مصادر أمنية اسرائيلية رفيعة المستوى قولها إنها تعتقد أنه على الرغم من اعترافات هذه التنظيمات الا أنها تعتبر أن عناصر " كتائب عز الدين القسام "، الجناح العسكري لحركة حماس هم الذين نفذوا على الأقل عملية " بيت لحم " التي أسفرت عن مقتل ثلاثة من المستوطنين. المصادر الأمنية الإسرائيلية الرفيعة ادعت أن حركة حماس فضلت عدم الاعلان عن العملية خوفاً من أن تستمثر اسرائيل ذلك في تبرير زيادة وتيرة الحملة الأمنية التي تقوم بها ضد الحركة عشية إجراء الانتخابات التشريعية الفلسطينية. هذه الشهادة الاسرائيلية تؤكد بشكل خاص أن حركة حماس في الضفة الغربية شرعت في استعادة نشاطها المقاوم بشكل ملحوظ , حيث إن هذه العمليات تنضم إلى عملية اختطاف وقتل الاسرائيلي الذي تقول حماس إنه كان ضابطاً في جهاز المخابرات الاسرائيلية. وهذا يؤذن – إن شاء الله – باستعادة حركات المقاومة بشكل عام زمام المبادرة الذي بدا وكأنها فقدته بعد تنفيذ فك الارتباط. واضح تماماً أن الدولة العبرية لم تسلم بالواقع الجديد الذي يرتسم أمام ناظري صانعي القرار فيها، فقررت تكثيف عمليات القمع عن طريق مواصلة تعقب ومطاردة قادة وعناصر حركات المقاومة وعلى رأسها حركة حماس. وبالفعل فقد تم التشديد داخل دوائر صنع القرار الأمني والسياسي الإسرائيلية أنه يتوجب استثمار عمليات المقاومة الاخيرة من أجل تبرير الاجراءات التي شرعت فيها اسرائيل فعلاً ' والهادفة إلى منع حركة حماس من المشاركة في الانتخابات التشريعية، وذلك عن طريق تكثيف عمليات الاعتقال في صفوف الحركة. الى جانب ذلك بدأت الدولة العبرية في ممارسة الضغوط على الجمهور الفلسطيني، عن طريق العقوبات الجماعية بهدف إرغامه على الضغط على حركات المقاومة من أجل وقف عملياتها، حيث إن اسرائيل تفترض أن حركات المقاومة تأخذ في اعتبارها موقف الرأي العام الفلسطيني من عمليات المقاومة. وفي هذا السياق قررت اسرائيل منع الفلسطينيين من استخدام شوارع الضفة الرئيسية في تحركاتهم، حيث حظر على الفلسطينيين استخدام سياراتهم الخاصة في التنقل في معظم شوارع الضفة، في نفس الوقت تم حصر استخدام هذه الطرق على المستوطنين، بالطبع الى جانب فرض عقوبات جماعية أخرى، مثل الحرمان من أداء الصلوات في المسجد الأقصى، وفرض الحصار على مدن وبلدات الضفة ورفض طلبات السفر للخارج للدراسة والعلاج. في نفس الوقت تمارس اسرائيل أقصى درجات الضغط على السلطة الفلسطينية من أجل القيام بخطوات لقمع حركات المقاومة، ومن الأهمية بمكان الإشارة الى أن اسرائيل نجحت في فرض أجندتها الخاصة على لقاء أبومازن الأخير مع الرئيس بوش. وقد تمثل هذا النجاح في إعلان الإدارة الأمريكية في أعقاب الاجتماع أنها تعتبر قيام السلطة الفلسطينية بتفكيك حركات المقاومة يسبق في أهميته التزام اسرائيل بوقف الاستيطان في الضفة. لكن أياً كانت الخطوات الإسرائيلية المضادة، فإن تل ابيب فشلت مرة أخرى في ردع الشعب الفلسطيني وقواه الحية عن مواصلة درب التحرير، والذي يدلل على ذلك بشكل جلي هو تفجر الجدل الداخلي في اسرائيل نفسها حول بؤس الرهان على خيار القوة العارية في مواجهة المقاومة، وتعاظم الدعوات داخل الكثير من الأوساط الاسرائيلية لانكفاء الدولة العبرية وسحب قواتها من الضفة الغربية حتى لا تضطر للمخاطرة بوجودها نفسه في حال تواصل الاحتلال، كما يقول الجنرال عميرام ليفين نائب الرئيس السابق لجهاز " الموساد ". لقد تبين بشكل لا يقبل التأويل أن عمليات المقاومة هي أكثر ما يؤثر على الجدل الداخلي الاسرائيلي وتبين لمعظم الاسرائيليين حجم التضليل الذي يمارس عليهم من قبل حكوماتهم بتعليقهم بالرهانات على القمع في مواجهة مقاومة الشعب الفلسطيني. المصدر : الإسلام اليوم