قبل ثورة يناير بقليل، وقف المصريون طويلا عند إعلان عن فيلم سينمائى جديد على شاشة تليفزيون الدولة الرسمى.. كان الإعلان عبارة عن مشهد ساخن من الفيلم، تقول فيه البطلة للبطل: بص.. فوق ليك.. وتحت لما نتجوز ".. وعندما ثار البعض على هذا الإعلان، وعلى الفيلم الذى يروج له بصفة عامة، باعتباره "تخريجة لا أخلاقية لأزمة الزواج، رفض المخرج واعتبر ما يحدث تحريضاً على وأد حرية الإبداع فى الفن. الفيلم الذى صوره المخرج الشاب على أنه قطعة فنية رائعة تصور واقع الفتاة المصرية المراهقة كان فى حقيقة الأمر فيلما من أفلام "العرى" أو "البورنو"، التى تبرر سقوط الفتيات فى بحر الرذيلة، لتراجع فرص الزواج، وكأن البديل الوحيد للحلال هو الحرام، وهذه كانت فى واقع الأمر هى رسالة الفيلم، الذى ركز على "العرى" أكثر مما ركز على الحل، وكان السؤال: هل هذه فعلا هى رسالة الفن؟.. هل هذا المخرج فعلا ينتمى إلى المبدعين أم أنه "تاجر إباحى" أو "بائع لأجساد الممثلات" و"انتهازى يبيع الرذيلة للمراهقين والمراهقات"! ولم تمض شهور قليلة بعد الثورة، حتى رأينا هذا المخرج يهبط على الساحة السياسية طارحا نفسه كأحد رموز حرية الإبداع، ساعده فى ذلك أحد مرشحى الرئاسة، الذى ربما سيندم قريبا، أو كما يقول بعض المقربين إليه، إنه ندم بالفعل، ولكنه لا يستطيع الآن عمل شىء، بعد أن أصبح محسوبًا عليه. هذا المخرج الذى يعتمد فن البيع بالجنس، وهناك عدد غير قليل ممن هم على شاكلته، أصبحوا الآن نجومًا فى الفضائيات، بل ويتم تقديمهم أحيانًا كرموز سياسية. وكان من الطبيعى فى غياب مفهوم "حرية الإبداع" عن الساحة بمدلوله الصحيح، أن نجد مثل هؤلاء يتلفحون بشعارات ويرفعون لافتات تستصرخ المجتمع المصرى أن يهب لنجدة "المبدعين" من أمثالهم، وكأنهم يطلبون منا كمصريين أن نوفر لهم الغطاء لممارسة الرذيلة تحت مسمى حرية الإبداع، أو نوفر لهم حماية شعبية، وهم يقدمون خلطتهم غير الفنية المليئة بالعرى والإباحية والإسفاف والابتذال. وعندما تم تعيين الدكتور سامى الشريف، رئيسًا للتليفزيون بعد الثورة، قامت الدنيا عليه ولم تقعد من جانب مدعى حرية الإبداع، عندما قرر فى شهر مايو 2011، حذف مشاهد العرى والأحضان العارية من الأفلام والمسلسلات، التى تقتحم علينا بيوتنا، ويشاهدها أبناؤنا وبناتنا. وراحت أقلام هؤلاء المدعين ومنهم صحفى كبير فى السن ويفترض أنه أديب، وكان رئيسًا لتحرير صحيفة أدبية، كتب هذا المدعى فى عموده اليومى بصحيفة قومية يهاجم الشريف وبعبارات مسيئة تفقر أبسط قواعد الذوق والأدب، مطالبًا إياها بترك الخلاعة، وعدم المساس بهذه المشاهد، واعتبر الأمر هجمة شرسة ضد حرية الإبداع! هكذا رأى هذا المدعى قرار الدكتور سامى الشريف، رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون بحذف هذه المشاهد الفاسقة والماجنة، والتى تشجع على الفجور! وما يستوقف المرء هنا هو أن هؤلاء من غير المبدعين أو بمعنى أدق "دعاة العرى" سارعوا بالانضمام إلى ما يسمى هذه الأيام ب "التيار الثالث"، كرموز للفن، وحرية الإبداع، وهدفهم ركوب التيار، لحماية إسفافهم. أما السبب الحقيقى هنا فليس، كما يدعون، خوفهم من الدولة الدينية، وإنما وإذا ما وضعنا الألفاظ فى معانيها خوفهم من الدولة الأخلاقية. فالدولة الأخلاقية المنضبطة لن تسمح بالرذيلة والعرى والإسفاف، لحماية القيم، وصون المبادئ، وهذه الدولة الأخلاقية تحرص عليها حتى المجتمعات المدنية الديمقراطية فى الغرب، التى نرى بها جماعات نادى بالأخلاق، وحماية المجتمع من التفسخ والانحلال. وهذه الدولة الأخلاقية نحن أحوج ما نكون إليها الآن، بعد أن استخدمت نظمنا العسكرية وعبر ستين عامًا الرذيلة كوسيلة لتغييب وعى الشباب، وإخراجهم من مسيرة إقامة دولتهم المدنية الديمقراطية الأخلاقية، التى تحض على حرية الإبداع، وتحميها، وترفض أن تكون هذه الحرية كلمة حق يراد بها باطل، بتحويلها لحرية مطلقة تغتال القيم، وتدوس على المبادئ، لأنها بذلك ستصبح فوضى مطلقة، فكل مجتمع له قوانين وأعراف تحكمه، ولا يجوز تخطيها أو تجاوزها. فإذا كانت حرية الإبداع ضرورة للمبدع حتى لا يقيد خياله أو تكبل أفكاره، إلا أن لها ضوابط، والمبدع الحقيقى يدرك أنه صاحب قضية، وصاحب رسالة، تجاه نفسه وتجاه مجتمعه، فلابد أن يكون قدوة لأمته بما وهبه الله من موهبة، وحباه من قدرة على التعبير والابتكار، لكى يقود مجتمعه إلى الأفضل والأقوم، لا أن يجرهم إلى مواطن الفساد وبؤر الرذيلة. المبدع له مطلق الحرية فيما يختار من أفكار ورؤى وموضوعات، لكن عليه أن يصلح ولا يفسد، أن يبنى ولا يهدم، أن يدافع عن الفضيلة، لا أن يجعل الرذيلة وسيلته لكسب العيش، ثم يخرج علينا، مدعيا أنه مبدع، وعلينا أن نحمى إبداعه! هؤلاء المدعون لم يفكروا لحظة واحدة فى أبنائهم وأحفادهم، وكيف يمكن أن يخرجوا للحياة ليجدوا مجتمعا فاسدًا بانتظارهم، يقدم لهم الرذيلة تحت مسمى حرية الإبداع، ويجدون فى سن مبكرة العرى على الشاشات، وإلباس الحق بالباطل فى الكتابات. هل يدرك هؤلاء المدعون أن أبناءهم وأحفادهم سيتعرضون لتشوهات أخلاقية، ومشكلات عاطفية، وانحرافات غرائزية، بما يقدمون، وأنهم برؤيتهم آباءهم وأمهاتهم يقدمون لهم الرذيلة فى ثوب فنى، سيؤمنون بأن الرذيلة هى القاعدة، التى ينبغى أن تتبع، وأن الفضيلة هى الاستثناء، الذى يتعين الابتعاد عنه. لا يدرك هؤلاء أنه فى سبيل هدف حقير، يدمرون قيما ومبادئ، وينتهكون قواعد وأعرافًا.. الدولة الأخلاقية لا تعرف إلا مسارا واحدا.. تيارا واحدا.. لا يوجد مسار ثالث.. لا يوجد تيار ثالث!