طوال الأسبوعين الماضيين وأنا أبدى اندهاشى الشديد لكل من حولى من الأصدقاء الإعلاميين والسياسيين حول قصة الثورة العظمى، التى رتب لها ناشط سياسى شاب وأنها ستقيم مصر ولا تقعدها وأنها ستسقط نظام الرئيس محمد مرسى، وتنهى حكم الإخوان المزعوم، كان الكلام فوق حدود العقل، وكنت أؤكد للجميع أن هذه أقرب للنكتة منها للفرضية السياسية الحقيقية، كما سربت جهات عديدة قبل أيام أنباء عن حشد أعداد ضخمة من البلطجية وتجهيزات بالأسلحة ونحو ذلك، وليلة الثورة الموعودة سألنى الصديق الإعلامى المتميز، الأستاذ خالد عبد الله فى قناة الناس، عن مخاطر هذه الحركة فقلت له إنى أتحدى أن يقول أحد إن هذه التظاهرات سيحضرها عشرة آلاف شخص وليس مائة ألف أو مليون، كما يزعمون، وأكدت له وللمشاهدين أنها فقاعة لا قيمة لها وأن اليوم سيمضى بهدوء كامل ولن يعيره المصريون أى انتباه، وقد كان، وظهرت الفضيحة للجميع، لقد كانت فرضية أسطورية أن يقوم شاب حديث عهد بالسياسة ولا يملك أى تاريخ نضالى ولا أى جذور شعبية ولا أى كاريزما بتحريك ملايين المصريين فى موقف سياسى ضد رئيس منتخب بإرادة ملايين المصريين، صحيح أنه يستظل بملايين الملياردير الطائفى المعروف، الذى يدعمه، والذى اختفى فجأة من المشهد طوال فترة الإعداد للثورة العظمى، واكتفى بالبقاء فى الظل البعيد مراقبًا لحظة نجاح الثورة لينصبه الشاب الغر عضوًا فى اللجنة الرئاسية المؤقتة التى ستدير شؤون البلاد والعباد خلفا لحكم الرئيس الشرعى، محمد مرسى، وكانت القناة الفضائية، التى يملكها هذا "الطائفي" مع موقع صحيفة قومية كبرى وموقع صحيفة خاصة يومية أخرى، قد تزعموا حملة "النفخ" فى هذا الشاب طوال الأسابيع الماضية، فلان أعلن، فلان قرر، فلان توعد الرئيس، فلان يعلن عن تشكيل مجلس رئاسى مؤقت، فلان يقود مسيرة من كذا، فلان يتوجه إلى القصر الجمهورى، كانت حملة مضحكة وهستيرية وتمثل إهانة للإعلام المصرى وإهانة للمشهد الثورى فى مصر بكامله، لكنها يبدو كانت تعبيرا عن أحلام وأمانى بقية من فلول النظام الفاسد المنحل فى عودة التاريخ إلى الوراء، فانتهت أحلامهم ونفخهم إلى فضيحة مؤلمة جدًا، جعلت كل من دللها وحاول أن يمهد لها الأجواء يتهرب من الانتساب إليها وينفى مشاركته فيها، فشل تلك المظاهرة العابثة يعطى رسالة عن أن مصر أكبر من أى مغامر يتصور أنه يمكنه أن يتلاعب بوعى المصريين أو يهدد مسار الثورة وإرادة الملايين، كما تعطى رسالة مهمة بأن الثورة انتصرت، والرئيس الحالى هو ابن الثورة، وأتى بإرادتها ديمقراطيا، وأن من أراد أن ينحيه عن منصبه فهذا حقه الدستورى والديمقراطى، ولكن لا مجال أمامه سوى استخدام الأدوات الديمقراطية واللجوء إلى الشعب، مصدر السلطة، من صندوق الانتخابات، لأن الثورة دشنت دولتها بالفعل، وعلى الجميع أن يحترم ذلك، وعلى الجميع مسؤولية المشاركة فى تعزيز بناء مؤسسات الدولة الجديدة، بما يجعلها دولة مؤسسات حقيقية وفصل بين السلطات قوامها التعددية السياسية والتداول السلمى للسلطة وسيادة القانون وقدسية الحريات العامة بكل أبعادها، لا وقت أمام القوى السياسية الآن لإهداره فى هذا العبث والتهريج السياسى وصناعة المنظرة الإعلامية الفارغة، فنحن أمامنا استحقاقان فى غاية الخطورة، الأول إنجاز الدستور الجديد الضامن لحقوق الشعب والمحدد لصلاحيات رئيس الجمهورية وسلطاته وطبيعة نظام الحكم، والثانى هو انتخابات البرلمان الجديد، والذى يجب أن يكون متوازنا وقويا ليكون سلطة مكافئة وموازنة لبقية السلطات، المهرجون لن يكون لهم مكان فى ذلك البرلمان، وأصحاب المنظرة الفضائية لن يكون لهم مكان فيه، والمناضلون بالماوس والكيبورد على الفيس والتويتر لن يكون لهم مكان فيه، فقط من يعملون فى الميدان وبين الناس ويؤسسون لتواصل سياسى حقيقى مع المصريين من العريش إلى مطروح، ومن الإسكندرية إلى أسوان، هؤلاء فقط هم الذين سينجحون فى انتزاع حضورهم السياسى والبرلمانى، ويمنعون أى قوة أو حزب من الهيمنة على البرلمان والانفراد بصناعة القرار السياسى. [email protected]