ينقسم الفلاسفة فى نظرتهم لوضعى العدل والحرية، فى المجتمع إلى قسمين فيُعلى أحدهما قيمة العدل على الحرية، بينما يعلى الآخر قيمة الحرية. وبصرف النظر عن تلك الفلسفات فإننا حين ننظر إلى واقع مجتمعنا وإلى واقع الثورات فى العالم، نستطيع أن نكتشف أن العدل قيمة عظمى فى أسباب قيام الثورات، كما أنه محرك رئيس فى ازدهار المجتمعات وتقدمها. ولا يعنى ذلك إلغاء قيمة الحرية، فالحرية نتاج طبيعى فى ظل العدل، حيث يلتزم الجميع بالقيم العليا للمجتمع بلا مكان للفوضى.. فى المقابل فإننا حينما ننطلق من الحرية كقيمة عظمى فلا ضمان للوصول لمنظومة العدل من خلالها بل فغالباً ما يصل المجتمع لحالة الفوضى.. والملاحظ على سلوك الجماعات البشرية أن القانون كان مسايراً لنشوء تلك المجموعات فلم تنشأ جماعة بشرية حضارية إلا وصاحب نشوءها نشوء قانون ينظم عمل أفرادها وعلاقاتهم البينية.. ولنا فى التاريخ خير مثال فحضارة قدماء المصريين وحضارة بلاد الرافدين وحضارة الصين وغيرها من الحضارات كلها شهود على قيمة العدل فى نشوء وتطور المجتمعات.. ولا يعنى العدل وجود قانون حاكم لسلوك المجتمعات بل يعنى تفعيل دور العدل المطلق، فالقانون قد يكون جائراً، وقد يوضع ليحتمل أكثر من وجه وأكثر من تفسير، ويحتمل العديد من الاستثناءات، وهى أمور متناقضة فى ذاتها مع مفهوم العدل المطلق.. وحتى يكون العدل مطلقاً ينبغى أن تتوازن فيه الحقوق مع الواجبات من خلال منظومة قيم حاكمة تساوى بين الجميع طبقاً لقواعد محددة شفافة معلنة.. وهذا الجانب من منظومة العدل لكفيل بتوليد التنمية وتحفيز الجميع لدفع المجتمع إلى الأمام. ولننظر إلى الجانب الإيجابى فى مفهوم العدل فى مسار الثورات حين لا يتحرك المجتمع منطلقاً من روح التشفى، بل من روح العدل ذاته لنجد أن تطبيق العدل كفيل بتقنين وضع أمور المجتمع فى نصابها.. ولننظر إلى تاريخ الثورة الفرنسية، وما صاحبها من مجازر وإلى ما حدث فى ثورة يوليو 1952م لنكتشف الفرق الحضارى بين قيمة العدل هنا وهناك.. ولست أدعى أن ما حدث فى كلتا الثورتين تطبيق شفاف لقيمة العدل هنا وهناك فهناك العديد من الاستثناءات، التى صاحبت كلا المشهدين، ولكن يبقى وجود مسار عريض لكلا المشهدين.. فى الحالة المصرية صاحب الثورة قواعد محددة واضحة تجاه من شارك فى إفساد الحياة السياسية وتجاه الجريمة المنظمة رغم قلتها، فلقد صاحبها إعادة محاكمة الجناة فى تلك القضايا.. على سبيل المثال فلقد تم إعادة محاكمة قطاع الطرق فى محافظة الشرقية من خلال عائلة بعينها مع غيرها.. والعجيب فى الأمر أنه خلال العقود القليلة الماضية تبوأ أكثر من فرد من تلك العائلة منصباً وزارياً! كان هذا المناخ الذى صاحب الثورة محفزاً للأمن والاستقرار وانخراط الشعب فى العمل الوطنى.. والأمر هنا لا يحتمل صك براءة بخصوص قيادة البلاد فهناك العديد من الأخطاء، ولكننى أرصد هنا المسار والنهج العام للأحداث فى جزئية بعينها. ولنتذكر كيف أثر قانون الغدر فى تطهير الحياة السياسية فى مصر فى أعقاب ثورة 1952م، والآن بعدما اكتمل لأحداث العام الماضى ركن ركين من أركان الحكم، وهو رئيس منتخب بإرادة شعبية حقيقية هل يمكننا أن ننتظر تطهيراً للحياة السياسية من أعضاء الحزب المنحل والأحزاب الكرتونية الأخرى، التى شاركت فى مسرحية هزلية لتدعيم أركان النظام السابق؟ هل ننتظر محاكمة حقيقية لا هزلية تستند لقيمة العدل المطلق ولصحيح روح القانون ضد من تربح على حساب الشعب؟ هل ننتظر تطهيراً لمنظومة القضاء ذاتها التى تستثنى أبناء أعضائها على حساب بقية الشعب؟ هل ننتظر مرحلة لا استثناءات فيها؟ لقد واكبت أحداث العام الماضى تعدياً على حقوق الوطن والمواطنين من تجريف للأرض الزراعية ومن تعديات على المبانى العامة والخاصة ومن تواطؤ من المحليات وإداراتها للتعدى على صريح القانون وصريح مهنة الهندسة بهدم البنايات، وإقامة أبراج مكانها، ومن التعدى على نهر الشارع فى وسط العاصمة وغيرها من الأحياء والمدن، ومن التعدى على القواعد الحاكمة فى العديد من الأمور العملية والعلمية فى مختلف القطاعات لصالح أفراد وفئات بعينها؟ أليس العدل فى ألا نتقبل مواقف قانونية ومالية متباينة نتيجة فساد النظام السابق؟ لقد تربح العديدون فى ظل فساد الحكم نتيجة ذلك الفساد، وهو ما تشهده أروقة المحاكم ويشهده الواقع المصرى، فهل من العدل أن يتساوى الشريف، الذى لم تطاوعه نفسه فى المشاركة فى منظومة الفساد قانونياً ومالياً مع من تبوأ موقفاً مالياً أو قانونياً نتيجة ذلك الفساد؟ للعدل؛ والذى أكاد أجزم أنه قيمة بلا سلبيات؛ من خلال قانون بلا ثغرات ومن الحزم فى تطبيقه جوانب إيجابيةعديدة يفجر طاقات الشعوب والجماعات، ويظل رادعًا لمن تسول له نفسه التطاول على مقدرات البلاد والعباد.. إن التغاضى عن سلبيات الماضى فى حق الوطن والمواطن ظلم بين لأننا بهذا ننشئ العديد من المواقف القانونية غير العادلة بالأساس فحتى إن طبقنا عليها منظومة عادلة فلن تنتج إلا ظلماً، كما أننا بهذا نلغى الإحساس بتوقع العقوبة عند المخالف مهما طال الأمد ونفتح للبعض نافذة للتهرب من الجريمة فى حق الأمة جميعها. [email protected]