لفت نظرى وأنا أقرأ حكايات ألف ليلة وليلة منذ أكثر من ثلاثين سنة شخصية الجارية تودد، التى جاءت على لسان شهرزاد ضمن أحد حكاياتها لشهريار فى قصص ألف ليلة وليلة، وقد ورد ذكرها بدءًا من الليلة الأولى بعد الأربعمائة، فى نهاية الجزء الثانى وبداية الجزء الثالث، واكتشفت أن هناك كثيرين من المؤرخين والباحثين انشغلوا بها، فهل هى شخصية حقيقية، أم مثل أغلب شخصيات ألف ليلة من نسج الخيال؟، وفى كل الأحوال فالكثيرون من المهتمين بالتراث القديم تعاملوا معها على أنها شخصية حقيقية، وأقدم للقارئ هنا ملخصًا لحكايات تودد الممتعة. كانت تودد جارية لرجل موسر يسمى أبو الحسن، أنفق كل ماله فى الملذات، ولم يبق معه سوى هذه الجارية، ولما وصل به الأمر أن نفذ الطعام من منزله، وبقى لثلاثة أيام بدون أكل، طلبت منه الجارية أن يحملها إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد، وأن يطلب منه عشرة آلاف دينار ثمنًا لها، وقالت له: قل لأمير المؤمنين أن جاريتى تساوى أكثر من هذا وعليه أن يختبرها، ونبهت عليه محذرة: إياك أن تبيعنى بأقل من هذا، لأ، مثلى قليل، وأنا ليس لى نظير، فحملها إلى أمير المؤمنين، وقال له ما قالته، وطلب منه أن يختبرها. سألها أمير المؤمنين: ما تحسنين من العلوم؟ فقالت: أعرف النحو والشعر والفقه واللغة، وأعرف فن الموسيقى، وعلم الفرائض، والحساب والقسمة والمساحة، وأساطير الأولين، وأعرف القرآن العظيم وقد قرأته بالسبع وبالعشر وبالأربعة عشر، وأعرف عدد سوره وآياته، وأحزابه وأنصافه وأرباعه وأثمانه وأعشاره، وسجداته، وعدد أحرفه، وأعرف ما فيه من الناسخ والمنسوخ، وأسباب التنزيل، وأعرف الحديث الشريف دراية ورواية، والمسند والمرسل منه، ونظرت فى علوم الرياضة والهندسة والفلسفة، وعلم الحكمة والمنطق والمعانى، وتعلقت بالشعر وضربت العود، وإن غنيت ورقصت فتنت، وإن تزينت وتطيبت قتلت. لما سمع الخليفة هارون الرشيد كلامها على صغر سنها، تعجب من فصاحة لسانها، والتفت إلى مولاها، وقال: سأحضر من يناظرها فى جميع ما ادعته، فإن أجابت دفعت لك ثمنها وزيادة، وإن لم تجب فأنت أولى بها. كتب أمير المؤمنين، أن يكتب إلى عامل البصرة بأن يرسل إليه إبراهيم ابن سيار النظام، وكان أعظم أهل زمانه فى الحجة والبلاغة والشعر والمنطق، وأمره أن يحضر القراء والعلماء والأطباء والمنجمين والحكماء، والمهندسين والفلاسفة، وكان إبراهيم أعلم من الجميع، فما كان إلا قليلاً حتى حضروا فى دار الخلافة، فدعاهم أمير المؤمنين إلى مجلسه، وطلب استدعاء الجارية تودد، فحضرت وهى فى كامل زينتها كأنها كوكب درى، وقالت: يا أمير المؤمنين مر من حضر من العلماء والقراء والأطباء والمنجمين والحكماء والمهندسين والفلاسفة يناظرونى (ملحوظة: سنختصر هذه المناظرات لأقل من الربع نظرًا لطولها). سألها الفقيه: أخبرينى أيتها الجارية بما عرفت الله تعالى؟ ، فقالت: بالعقل، فقال لها: وما هو العقل؟ فقالت: العقل عقلان.. عقل موهوب وعقل مكسوب، فالعقل الموهوب هو الذى خلقه الله عز وجل يهدى به من يشاء من عباده، والعقل المكسوب هو الذى يكسبه المرء بتأدبه وحسن معروفه. فقال لها: أحسنت، فأين يوجد العقل؟ فقالت: فى القلب، ويصعد شعاعه فى الدماغ حتى يستقر (ملحوظة: علميًا العقل غير المخ، والمخ فى جمجمة الرأس لكن العقل قد يكون له مكان آخر). قال لها الفقيه: أخبرينى بأى شىء تقومين إلى الصلاة؟ فقالت: بنية العبودية، فقال لها: ماذا فرض الله عليك قبل قيامك إلى الصلاة؟ فقالت: الطهارة وستر العورة، واجتناب الثياب المتنجسة، والوقوف فى مكان طاهر، والتوجه للقبلة، والقيام والنية وتكبيرة الإحرام، فقال لها: أخبرينى عن الصلاة ما هى؟ فقالت: الصلاة سر بين العبد وربه، وفيها عشر خصال تنور القلب، وتضىء الوجه، وترضى الرحمن، وتغضب الشيطان، وتدفع البلاء، وتكفى شر الأعداء، وتكثر الرحمة، وتدفع النقمة، وتقرب العبد من مولاه، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وهى من الواجبات المكتوبات، وهى عماد الدين. سألها الفقيه: أخبرينى عن الجهاد وأركانه، فقالت: أركان الجهاد فهى خروج الكفار علينا، ووجود الإمام، والعدة، والثبات عند لقاء العدو، وأما سنته فهى التحريض على القتال. قال لها: أحسنت، فأخبرينى عن فروض البيع وسنته، قالت: أما فروض البيع فهى الإيجاب والقبول، وأن يكون المبيع (محل البيع) مملوكًا منتفعًا به، مقدورًا على تسليمه، وأما سنته فالإقالة والخيار قبل التفرق. ولما سمع الفقيه إجاباتها عرف أنها ذكية فطنة حاذقة عالمة بالفقه والحديث والتفسير، قال فى نفسه لابد أن أتحايل عليها حتى أغلبها فى مجلس أمير المؤمنين، فقال لها: يا جارية.. ما معنى الوضوء فى اللغة؟ فقالت: الوضوء فى اللغة هو النظافة والخلوص من الأدناس، فقال لها: ما معنى الحج فى اللغة؟ فقالت: القصد.. وهنا انقطعت حجة الفقيه، فقام على قدميه وقال: أُشهِِد الله يا أمير المؤمنين أن الجارية أعلم منى فى الفقه. وقام فقيه آخر وسألها: يا جارية أخبرينى عن الإيمان؟ فقالت: ينقسم إلى تسعة أقسام، إيمان بالمعبود، وإيمان بالعبودية، وإيمان بالخصوصية، وإيمان بالقبضتين، وإيمان بالناسخ والمنسوخ، وأن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وتؤمن بالقضاء والقدر خيره وشره، حلوه ومره. قال الفقيه: أخبرينى عن عدد الصحابة الذين جمعوا القرآن فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: هم أربعة، أبى كعب، وزيد بن ثابت، وأبو عبيدة بن عامر بن الجراح، وعثمان بن عفان رضى الله عنهم جميعًا، فقال لها: فما تقولين فى قوله تعالى: وما ذبح على النصب؟ فقالت: هى الأصنام التى تنصب وتعبد من دون الله. وبعد ذلك تقدم منها الطبيب الماهر وسألها: بم يصل الأذى إلى الرأس؟ فقالت تودد: بإدخال الطعام على الطعام قبل هضم الأول، والشبع على الشبع، فهو الذى أفنى الأمم، فمن أراد البقاء فليبادر بالغذاء ولا يتمسى بالعشاء، وليقلل من مجامعة النساء، وليخفف الرداء، وألا يكثر الفصد ولا الحجامة، وأن يجعل بطنه ثلاثة أثلاث، ثلث للطعام وثلث للماء وثلث للنفس.. فقال لها الطبيب: أحسنت، أخبرينى عن طعام لا يتسبب عنه أسقام، فقالت: هو الذى لا يطعم إلا بعد الجوع، وإذا طعم لا تمتلئ منه الضلوع، لقول جالينوس الحكيم "من أراد إدخال الطعام على الطعام فليبطئ، ثم لا يخطئ"، ولنختم بقول سيد الأنام صلى الله عليه وسلم: "المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء.. وأصل كل داء البردة أى التخمة". فقال الطبيب: ما تقولين فى شرب الماء؟ فقالت: لا تشربه شربًا، ولا تعبه عبًا، فإنه يؤذيك صداعه، ويشوش عليك من الأذى أنواعه، ولا تشربه عقب خروجك من الحمام ولا من الجماع، ولا عقب يقظتك من المنام، فقال لها الطبيب: أخبرينى عن المجامعة؟ فقالت: النكاح فيه فضائل فريدة وأمور حميدة، منها أنه يخفف البدن الممتلئ بالسوداء، ويسكن حرارة العشق، ويجلب المحبة، ويبسط القلب، ويقطع الوحشة، والإكثار منه فى أيام الصيف والخريف أشد ضررًا منه فى أيام الشتاء والربيع، وعن منافعه فهى كثيرة، فهو يزيل الهم والوسواس، ويسكن العشق والغضب، وينفع القروح، هذا إذا كان الغالب على الطبع البرودة واليبوسة، وإلا فالإكثار منه يضعف النظر، ويتولد منه وجع الساقين والرأس والظهر، ثم قالت: وإياك ومجامعة العجوز فإنها من القواتل، قال الإمام على كرم الله وجهه: أربع يقتلن ويهرمن البدن، دخول الحمام على الشبع، وأكل المالح، والمجامعة على الامتلاء، ومجامعة المريضة، فإنها تضعف قوتك وتسقم بدنك، والعجوز سم قاتل، وقال البعض: إياك أن تتزوج عجوزًا ولو كانت أكثر من قارون كنوزًا. فقال لها الطبيب: أخبرينى عن طير يمنى ولا يبيض، فقالت: هو الخفاش، فقال لها فأخبرينى عن شجاع يبيض، فقالت هو الثعبان. شهد لها الطبيب بالحذق، وتقدم إليها بعد ذلك المنجم، وأجابته عن كل ما سأل، ثم تقدم منها الفيلسوف وسألها: أخبرينى عن خمسة أكلوا وشربوا وما خرجوا من ظهر بطن، فقالت: هو آدم، وشمعون، وناقة صالح، وكبش إسماعيل، والطير الذى رآه أبو بكر الصديق فى الغار، فقال لها: أخبرينى عن قبر مشى بصاحبه؟ فقالت هو حوت يونس، فقال لها: أخبرينى عن بقعة واحدة طلعت عليها الشمس مرة واحدة، فقالت هى الطريق الذى ظهر لموسى عليه السلام حين ضرب البحر بعصاه فانشق، فقال لها: أخبرينى عن أول ذيل سحب على الأرض؟ فقالت: ذيل هاجر حياءً من سارة، فسارت سنة فى العرب، فشهد لها الحكيم. ثم قام إليها ابن سيار النظام، وسألها: أخبرينى عن خمسة أشياء خلقها الله تعالى قبل خلق الخلق؟ فقالت: الماء والتراب والنوم والظلمة والثمار، فقال لها: أخبرينى عن أولك وآخرك؟ فقالت: أولى نطفة قذرة، وآخرى جيفة قذرة، وأولى من التراب وآخرى إلى التراب، وأكثر من أسئلته لها وهى تجيب عليها كلها، حتى وقف هارون الرشيد بنفسه وشهد لها، ثم أرسل فى إحضار معلمى الشطرنج والكمنجة والطاولة، وحضروا جميعًا، وتباروا معها فغلبتهم. عند ذلك أعجب أمير المؤمنين بفصاحة تودد، وبغزارة علمها فى كل شىء، وأمر بإعطائها خمسة آلاف دينار مكافأة لها، ثم قال لها: تمنى علىَ، فقالت: ردنى إلى مولاى، فردها إلى صاحبها، وخصص له كل شهر ألف دينار، وعاشا معًا فى أرغد عيش، وهكذا انتهت حكايات الجارية تودد فى الليلة الثالثة والخمسين بعد الأربعمائة من ليالى ألف ليلة وليلة، ونقلناها باختصار شديد جدًا جدًا.