استفزني مقال بالأهرام للكاتبة "وفاء محمود" بعنوان "سر الخلطة السياسية لإسماعيل صدقي باشا" لم تكتف بالإشادة به بل وصفت من ينتقده بالغلوائية التي شوهت رموزا لا تستحق إلا الاحترام بسوء التقدير وفقر الفكر والانتماءات المتحيزة. واستندت كاتبة الأهرام إلى مذكرات "السياسي الداهية" – حسب وصفها ! - (إسماعيل صدقي) باشا، الذي صبت عليه الاتهامات، فأرادت أن تعرف دوافعه الشخصية فيما فعل، وجلب له كل هذه النقمة، رغم تميزه عن قرنائه، ممن تولوا رئاسة وزراء مصر، وحظوا بشعبية طاغية، مكنتهم من وصفه بالطاغية، وهو من حمى مصر من الإفلاس إبان الأزمة الاقتصادية العالمية عام 30، التي اجتاحت العالم، فأنشأ بنك التسليف ليحمى الفلاحين الفقراء من الشعب، من استغلال المرابين الأجانب، وإلى جانب الإصلاحات الاقتصادية، قام بإصلاحات زراعية كمشروعات الرى والصرف وتعلية خزان أسوان، بالإضافة إلى إصلاحات عمرانية شهد بها الجميع.. كل هذا فى بضع سنوات، لم تهدأ فيها المظاهرات والاحتجاجات والمقالات، التي تغافلت عن كل إنجازاته، التي فشل فيها منافسوه ولم تشفع له، بسبب تعديل الدستور. وانه الآن ربما تكون واقعية (صدقي) حلا عمليا لكثير من مشاكلنا المعلقة، فكانت وجهة نظره أن مصر ليست أوروبا، والأحوال الاجتماعية والاقتصادية فى مصر من حيث التعليم ونوع الثروة العامة وتوزيعها لا تشبه البلاد الذى أخذ منها دستور (23)، واعتمد على الدستور البلجيكى ويعتبر صورة صادقة من الديمقراطيات الأوروبية، والتى لم تبلغها فى طفرة واحدة أى بلد من البلاد، فهو يرفض الانتفاع بخبرة الغير فى الأمور الدستورية، دون مراعاة ما بين البلاد من فوارق فى الخلق والطباع والنظم الاجتماعية . بعد قراءة سيرته الذاتية ودوافعه العملية للتقدم بالبلاد بسر الخلطة السياسية، التى تجمع بين الدهاء والكفاءة السياسية والاقتصادية، والتى تشير إليها إنجازاته العملية، رغم الانقسامات الحزبية والشعبوية، فمن يتباكى على أن مصر لم تلحق بالنمور الآسيوية، وتخلق قواعد اقتصادية واجتماعية ثابتة وقوية، أو يسعى لقيام دولة فلسطينية، عليه أن يعيد النظر فى الخلطة السرية فى البراجماتية السياسية وتجاوز المزايدات لصدقى باشا، وحتى تقام قواعد بناء اجتماعى واقتصادى يستوعب الحياة الديمقراطية الفعالة،، سأكتفى بمشاركة جموع الشعب بالبحث عن الظواهر الجادة للبحث عن معنى حقيقى للحياة، دون تزييف شعاراتى كاذب عفى عليه الزمن!.. وأختتمت مقالها بعبارة " وياما فى التاريخ مظاليم " بداية كنت ارجو من كاتبة الاهرام عدم الاكتفاء بالاعتماد على المذكرات الشخصية ، ولو اعتمد كل باحث او كاتب عن ميكتبه المسئول عن نفسه لوجد كل المسئولين ملائكة وهو ما رأته الكاتبة وانبهرت به بصورة للاسف كاريكاتيرية فالذين وصفتهم بالغوائية من بينهم كتاب ومؤرخين كبار اكبر قامة الف مرة ممن تمدحه وتظن ان التاريخ ظلمه ، بينما هو الذى ظلم التاريخ ! وهذا عرض تاريخي لإسماعيل صدقي المنبهرة به الكاتبة ، ورأى احد كبار الكتاب والمؤرخين فيه لعلها تتراجع عن تجاوزها بوصفه منتقديه بالغوغائية ! فعن تاريخه كان إسماعيل صدقي كارها للصحافة وللحريات بوجه عام ، وفى الوقت ذاته كانت علاقاته باليهود تحيطها الشبهات ، لذا لم يكن غريبا ان يتخذ مواقف معادية للفلسطينيين المقيمين بمصر ، وأثناء توليه وزيرا للداخلية عام 1925 أعتقل الوطنين الفلسطينيين الذين هتفوا ضد بلفور أثناء مروره على مصر لحضور الاحتفال بافتتاح الجامعة العبرية، وعندما تولى رئاسة الوزارة عام 1930 أغلق جريدة " الشورى " الفلسطينية لصاحبها محمد على الطاهر ، فى حين أبقى على جريدة " إسرائيل " الصهيونية ! وليس هذا ببعيد عن علاقة إسماعيل صدقي باليهود ، فقد كانت تربطه علاقات طيبة وعلاقات عمل بهم ، حيث شغل رئيس مجلس إدارة شركة كوم امبو لاستصلاح الأراضي والتي كانت تملكها أسرة قطاوى باشا أبرز الأسر اليهودية في مصر ، وحتى الأوقات التي شغل فيها صدقي موقعا رسميا كرئيسا للوزارة كان يتولى رئاسة الشركة شرفيا ! .. ولعل هذا يفسر اهتمامه بإنشاء بنك التسليف للتعامل مع الفلاحين ، وكذلك اهتمامه بمشروعات الري والصرف بهذه المنطقة ، وبتعلية خزان أسوان في الأوقات التي شغل فيها موقع رئيس الوزراء . ومعروف أن إسماعيل صدقي كان رافضا لخوض حرب 48 من اجل فلسطين ، وغلف رفضه بان مصر ليس لديها الاستعداد أو الإمكانيات وفى سياق علاقة صدقي باليهود تجدر الإشارة إلى العلاقات الطيبة التي كانت تربط صدقي ب " الياهو ساسون " في اربيعنيات ( والياهو ساسون هو والد السفير الإسرائيلي في مصر عام 1985 ) وقد تم طرح سؤال في مجلس الشيوخ يتعلق بمفاوضات بين إسماعيل صدقي ويهود في جنيف وفد اعترف بهذا الياهو ساسون رئيس الشئون العربية بالوكالة اليهودية فى رسالة الى موشى شر توك رئيس قسم السياسة بالوكالة مؤرخة بتاريخ 16 / 9 / 1946 جاء فيها التقيت ب اسماعيل صدقى باشا رئيس الوزراء ، أجريت معه مقابلة أستمرت خمسا وأربعين دقيقة ، وكان حديثا وديا ومريحا للغاية ، حتى أنه خيل لى بأننى جالس فى مكتبى بالوزارة مع أحد أصدقائى نتجاذب أطراف الحديث معا .. وقد بادرنى رئيس الوزراء المصرى بتوجيه شكره على المساعدة الكبيرة التى قدمتها له سواء فى انجلترا أو الولاياتالمتحدة . وكان مقتنعا بانها تفى بوعدنا وفى مجرى الحديث أشار اسماعيل صدقى باشا بعصبية الى الضيف الموقر الذى وجد ملجأ فى بلده بعد فراره من باريس ( أقصد مفتى القدس الحاج الحسينى ) وقد وصفه بأنه شخص يسعى الى مصالحه الشخصية فقط ، ولا يكترث بدمار العالم العربى كله فى سبيل تحقيق ما يريده ، لذا فقد أقترح على ان نقوم بالعمل معا على كشف مخططات مفتى القدس ودعواه فى مصر والدول العربية الآخرى .. كما كان محدثى - يقصد اسماعيل صدقى - كان من المؤيدين بحماس لضم الضيف الموقر – يقصد مفتى القدس – للبعثة المدعوة الى لندن ، ويأمل بهذا اصطياد عصفورين بحجر واحد وهو أن يبدو أمام الاّخرين بأنه صديق لمفتى القدس وفى نفس الوقت التخلص منه ، وقد أستجبنا لطلبه بالعمل على الحصول على معلومات وأخبار عن نشاطه " العنيف " ورجاله فى مصر وفلسطين والدول المجاورة الاخرى .. وفى سياق استعراض اسماعيل صدقى لزيارتى الى لندن ، طلبت منه أن يصلنى برسوله فى المحادثات أو بمندوبه فى العاصمة البريطانية ، ولكنه قال : أن ما اطلبه منه غير مرغوب فيه من جانبه ، لان رجاله لن يتفهموا الهدف من التعاون بيننا وسيفسرون هدفه ووجهات نظره تفسيرا مشوها وفى خطاب اّخر بعث به الياهو ساسون من لندن الى الادارة السياسية فى القدس ، ومؤرخ بتاريخ 30 / 9 / 1946 ان اسماعيل صدقى رئيس وزراء مصر والذى حددت معه ونظمت ما تم الاتفاق عليه بيننا قدم استقالته فى أعقاب فشل محادثاته مع بريطانيا ، وكل محادثاته ووعوده أصبحت بالنسبة لنا ماضيا سيسطره التاريخ فقط ، ولم يعد لها أية قيمة فعلية الان .. ويفسر البعض فى اسرائيل أن فشله مع بريطانيا جاء نتيجة ان انجلترا قد تسرب اليها ان له علاقة مع الاسرائليين من خلال علاقاته التجارية مع رجال الآعمال اليهود فى مصر مما أثار عليه غضب الانجليز حيث قرروا أن موقفه من تأييد مشروع التقسيم كان بسبب هذه العلاقات وكذلك الاتصالات السرية ، مما أفشلوا محادثتهم معه ، وبالتالى أضطراره الى الاستقالة اما عن مواقفه من الحريات ومنها الصحافة فتجدر الاشارة الى ما كتبه الكاتب والمؤرخ الاستاذ جمال بدوى فى كتابه " فى دهاليز الصحافة " ... " عام 1946 عهد الملك فاروق الى اسماعيل صدقى باشا بتأيف الوزارة فى مصر ، وهو رجل بغيض الى الشعب بسبب مواقفه المعادية للديموقراطية ، ومشاركته فى تدبير الانقلابات الدستورية ، وتحقيره للحركة الشعبية ، فقد كان يعتبر الشعب قاصرا يحتاج الى وصاية ، ويرى فى نفسه الوصى القادر على أن يسوق الشعب بالعصا ، وهو اول من أبتكر تزوير الانتخابات العامة عندما كان وزيرا للداخلية فى حكومة زيوار باشا عام 1924 ، وعندما تولى رئاسة الوزارة فى عام 1930 ألغى الدستور ، وأصطنع دستورا استبداديا يسحب السلطات من الشعب ، ويضعها فى كفة الملك فؤاد ، وأستخدم أبشع وسائل القمع ضد معارضيه ، ولم يتورع عن تدبير محاولة لاغتيال النحاس باشا اثناء زيارته المنصورة من اجل هذا قوبلت وزارة صدقى فى فبراير 1946 بغضبة شعبية عارمة ، نظرا لسجله الحافل فى خنق الحريات العامة ، خاصة وقد أرتفع المد الشعبى بعد نهاية الحرب العالمية الثانية للمطالبة بجلاء القوات البريطانية عن مصر ، فضلا عن التهاب الصراع الطبقى بتأثير التيارات اليسارية ، وصدق حدس الشعب. وأقترن مجىء صدقى الى الحكم بتعاظم نفوذ القصر الملكى على حساب الدستور الذى يحدد سلطات الملك ويحول دون تدخله فى أعمال السلطة التنفيذية المخولة للحكومة ، وأستهان الملك فاروق بالوزارة ، وأذعن صدقى لطغيان فاروق ، فلم يعترض على تعيين رجل القصر المدلل – كريم ثابت – مستشارا صحفيا بمرتب من المصروفات السرية ، وبدأت سلسلة التنازلات ، مما أدى الى تفاقم الغليان الشعبى ، وخرجت المظاهرات تهتف لآول مرة بسقوط فاروق ، وأنتشرت الاضرابات بين طوائف العمال والمعلمين والمهندسين وطلبة الجامعات والمدارس الثانوية ، فتصدى لها صدقى بالحديد والنار ، وأصدر سلسلة من القوانين المقيدة للحريات ، وبمقتضاها أغلق العديد من الصحف ، وألقى القبض على كبار الكتاب ووالصحفيين مثل الدكتور محمد مندور ومحمد زكى عبد القادر وسلامة موسى وغيرهم حتى غصت بهم السجون " تجدر الاشارة الى انه مع تنديد المنظمات الشعبية والمطالبة بقطع المفاوضات مع الاحتلال الإنجليزي ، واتفق الجميع على يوم للاضراب والحداد العام وتجديد الجهاد الوطني.. لكن" صدقي " لم يكترث بها ،وحسب الكاتب والمؤرخ " المستشار طارق البشري" في كتابه"الحركة السياسية في مصر 1945 -1952 " أراد صدقى أن يقتلع جذور الخطر علي هذا الاتفاق الموعود ، وأن يثبت للإنجليز قبيل إبرام الاتفاق قدرته علي الهيمنة علي البلاد ،فقام في اليوم السابق علي الإضراب باعتقال نحو مائتين من الكتاب والصحفيين والأحرار وزعماء اللجنة الوطنية ونقابات العمال ،وأغلق كثيرا من دور النشر والجمعيات . ترى بعض هذا الرد وايضاح صهيونية رئيس الوزراء المتيمة به الكاتبة ، وديكتاتوريته التى وصلت الى اعتقال 200 صحفى فضلا عن من تعرضوا للقتل فى حادث الكوبرى هل يستحق من انتقدوهمن كتاب ومؤورخين بالغواغيئة وفقر الفكر ؟! والاهم هل ما تحاول ان تسوقه الكاتبة بان تشفع للديكاتورية مادام هناك مشروعات للعمل . فهل لا يمكن تنفيذ اعمال الا بتحويل الشعب الى اخلاق العبيد ؟ واذا كانت الكاتبة اختتمت مقالها بالقول " يا ما فى التاريخ مظاليم " .. فأيضا " ياما فى الكتاب ظالمين " !