ثالثا : المحرمات بسبب الرضاع : المحرمات بالرضاع وهن مثل المحرمات بالنسب سواء لقوله تعالى : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } نص على هاتين وقسنا عليهما سائر المحرمات بالنسب وقال النبي صلى الله عليه وسلم : { يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب } ( متفق عليه ) . وعلى هذا ، فتنزل المرضعة منزلة الأم ، وتحرم على المرضع ، هي وكل من يحرم على الابن من قبل أم النسب ، فتحرم : أ - المرأة المرضعة : لأنها بارضاعها تعد أما للرضيع . ب - أم المرضعة : لأنها جدة له . ج - أم زوج المرضعة : - صاحب اللبن - لأنها جدة كذلك . د - أخت الأم : لأنها خالة الرضيع . ه - أخت زوجها : - صاحب اللبن - لأنها عمته . و - بنات بنيها وبناتها : لأنهن بنات اخوته وأخواته . ز – الاخت : سواء أكانت أختا لأب وأم ، أو أختا لأم ، أو أختا لأب . الرضاع الذي يثبت به التحريم : الظاهر أن الأرضاع الذي يثبت به التحريم ، هو مطلق الأرضاع . ولا يتحقق إلا برضعة كاملة ، وهي أن يأخذ الصبي الثدي ويمتص اللبن منه ، ولا يتركه إلا طائعا من غير عارض يعرض له ، فلو مص مصة أو مصتين ، فان ذلك لا يحرم لأنه دون الرضعة ، ولا يؤثر في الغذاء . قالت عائشة رضي الله عنها : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تحرم المصة ولا المصتان } ( رواه الجماعة إلا البخاري ) . والمصة هي الواحدة من المص . وهو أخذ اليسير من الشئ ، يقال أمصه ومصصته ، أي شربته شربا رقيقا. هذا هو الأمر الذي يبدو لنا راجحا. وللعلماء في هذه المسألة عدة آراء نجملها فيما يأتي : 1- أن قليل الرضاع وكثيره سواء في التحريم أخذا بإطلاق الأرضاع في الآية . ولما رواه البخاري ، ومسلم ، عن عقبة بن الحارث قال : تزوجت أم يحيى بنت أبي إهاب فجرت أمة سوداء فقالت : { قد أرضعتكما } . فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكرت له ذلك فقال : { وكيف ، وقد قيل ؟ دعها عنك } . فترك الرسول صلى الله عليه وسلم السؤال عن عدد الرضعات ، وأمره بتركها دليل على أنه لا اعتبار إلا بالأرضاع ، فحيث وجد اسمه وجد حكمه . ولأنه فعل يتعلق به التحريم ، فيستوي قليله وكثيره ، كالوطء الموجب له . ولأن إنشاز العظم ، وإنبات اللحم ، يحصل بقليله وكثيره . وهذا مذهب علي ، وابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، والحسن البصري والزهري وقتادة وحماد والاوزاعي والثوري وأبي حنيفة ومالك ورواية عن أحمد . 2- أن التحريم لا يثبت بأقل من خمس رضعات متفرقات . لما رواه مسلم ، وأبو داود، والنسائي ، عن عائشة قالت : { كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ، ثم نسخن بخمس معلومات ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهن فيما يقرأ من القرآن } . وهذا تقييد لاطلاق الكتاب والسنة ، وتقييد المطلق بيان ، لانسخ ولا تخصيص . ولو لم يعترض على هذا الرأي ، بأن القرآن لا يثبت الا متواترا ، وأنه لو كان كما قالت عائشة لما خفي على المخالفين . ولاسيما الإمام علي وابن عباس ، نقول : لو لم يوجه إلى هذا الرأي هذه الاعتراضات لكان أقوى الاراء ، ولهذا عدل الإمام البخاري عن هذه الرواية . وهذا مذهب عبد الله بن مسعود ، وإحدى الروايات عن عائشة ، وعبد الله بن الزبير ، وعطاء ، وطاووس ، والشافعي ، وأحمد في ظاهر مذهبه ، وابن حزم ، وأكثر أهل الحديث . 3- أن التحريم يثبت بثلاث رضعات فأكثر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا تحرم المصة ولا المصتان } . وهذا صريح في نفي التحريم بما دون الثلاث ، فيكون التحريم منحصرا فيما زاد عليهما . وإلى هذا ذهب أبو عبيد ، وأبو ثور ، وداود الظاهري ، وابن المنذر ، ورواية عن أحمد . ( يراجع فقه السنة للشيخ السيد سابق ) ثانيا : محرمات على سبيل التأقيت : المحرَّمات تحريمًا مؤقتًا هنَّ اللائي قام بإحداهن وصْفٌ مؤقَّت ، يترتب عليه تحريمُ الزواج طالَمَا كان هذا الوصف موجودًا ، بمعنى : أنَّ التحريم ليس راجعًا إلى وجود وصْف أبديٍّ دائم ، وإنَّما يرجع إلى وجود وَصْف مؤقَّت قد يزول يومًا ما ، وبزوال هذا الوصْف يزول التحريم . أقسام هؤلاء المحرمات : والوصْف الذي يكون سببًا في التحريم قد يَرجع إلى أنَّ حق الغير تعلَّق بهذه المرأة ، أو إلى أنَّه لا يجوز للرجل أن يجمع في عِصمته بيْن امرأتين تربطهما قرابةٌ قريبة ، أو قد يكون الوصْف هو طلاقَ هذه المرأة ثلاثًا ، وقد يكون التحريم راجعًا إلى عقيدة المرأة وأنها لا تَدين بدِين سماوي ، وأخيرًا قد يكون التحريم بسبب لا يرجع إلى امرأةٍ بعينها ، وإنما إلى أنَّ الرجل في عصمته أربعُ زوجات ، وما يهمنا فى هذا المقام هو القسم الخاص بتعلق حق أحد الأقارب بالمرأة ، كزوجة العم ، أو الخال ، وكذلك القسم الخاص بعدم جواز الجمع بين أمرأتين تربطهما قرابة قريبة . 1- مَن تعلق بها حق الغير : أما من تعلَّق بها حقُّ الغير ، فلا يجوز التزوُّج بها ، ، فزوجة الغَيْر ومعتدَّتُه - وخاصَّة المعتدة من طلاق رجعيٍّ - محرَّمة تحريمًا لا شكَّ فيه ، لأنَّها لا تزال في عصمة هذا الغَيْر ، ومن باب أولى إن كان هذا الغير من أقارب الشخص كالعم ، والخال . 2- الجمع بين المحارم : المحارم هم الأقارب من الجنسيْن الذين تربط بينهم القرابةُ المحرميَّة ، والقرابة المحرميَّة هي القرابة القريبة التي يترتَّب عليها تحريم الزواج ، فالقرابة بيْن الأخ وأخته قرابةٌ محرميَّة ، لأنها تحرِّم الزواج بين الأخ وأخته ، وبين الأخ وبنت أخيه ، وبنت أخته ، وهكذا . ومعنى ذلك أنَّ المحرَّمات على التأييد اللاتي تكلَّمْنا عنهنَّ سابقا ، هنَّ قريبات للشخص قرابة محرميَّة : إما نسبًا وإما رَضاعًا ، وإما مصاهرة . وتحريم الجمْع بيْن المحارم هنا معناه : أنَّ كل امرأتين بينهما قرابةٌ محرميَّة ، فإنَّه لا يجوز لرجلٍ واحدٍ أن يجمعَ بينهما في عِصمته ، فلا يجوز لرجل أن يتزوَّجَ أختين في وقتٍ واحدٍ ، لأنَّ القرابة بيْن الأختين قرابةٌ محرميَّة . وضابط هذه القرابة : أنه لو فرضت إحداهما ذكرًا حرمتْ عليه الأخرى ، فمتى وُجدتْ هذه القرابة بيْن امرأتين ، فإنَّه يحرم على الرجل أن يجمعَ بينهما في عِصمته ، فكما لا يجوز له أن يجمعَ بيْن الأختين ، لا يجوز له أيضًا أن يجمع بيْن المرأة وعمَّتِها ، ولا بين المرأة وخالتها . والأصل في هذا التحريم الكتاب والسنة والإجماع ، أما الكتاب : فقول الله - تعالى -: { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ } ( النساء : 23 ) ، جاء هذا النص الكريم في سياق المحرَّمات معطوفًا على قوله - تعالى -: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } ؛ أي: إنَّ الله - عزَّ وجلَّ - حرَّم عليكم أن تجمعوا بين الأُختين . فهذا النص الكريم يُحرِّم صراحةً على الشخص أن يجمعَ في عِصمته بيْن أختين ، ويحرم دلالةَ الجمع بين امرأتين بينهما قرابةٌ محرميَّة على نحوِ ما بينَّا . ومع ذلك، فإنَّ السُّنة النبوية قد زادتِ الأمر بيانًا ووضوحًا ، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم – قال : { لا يجوز الجمْعُ بيْن المرأة وعمَّتها ، ولا بيْن المرأة وخالتها } ( متَّفق عليه ) ، وفى رواية لمسلم : { نهى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يَجمع الرجلُ بيْن المرأة وعمَّتها ، وبيْن المرأة وخالتها } ، قال ابن شهاب : فنرى خالةَ أبيها ، وعمَّة أبيها بتلك المنزِلة } . وقد انعقدَ إجماعُ العلماء على تحريم الجمْع بيْن الأختين . والجمْع بين الباقيات من المحارِم . غير أنَّ هذا التحريم – أي : تحريم الجمْع بين المحارم - تحريمٌ مؤقَّت ، بمعنى أنَّه يظلُّ ثابتًا ، طالما أنَّ الزوجية قائمة ، فإذا ما انتهتْ رابطة الزوجية بطلاق بائِن أو بوفاة ، فإنَّ التحريم يزول ، ويعود الحِلُّ إلى ما كان عليه قبلَ الزواج ، وذلك بعدَ انتهاء عِدَّة الطلاق ، أو عِدَّة الوفاة ، فإنَّ الزوجية قد تكون قائمةً حقيقةً ، كما هو الحال بالنسبة للزوجيَّة الموجودة بالفِعْل دون أن يعتريَها أي عارض ، ولا تنقطع رابطةُ الزوجية إلاَّ بعد انتهاء عِدَّة الطلاق ، أو عدة الوفاة . وبناءً على ما تقدَّم : لو أنَّه تزوَّج امرأة وفي عِصمته أختها أو عَمَّتها أو إحدى محارمها ، فإنَّ زواجه بالثانية باطل ، ولكن هذا التحريم تحريم مؤقَّت - كما بينا . فإذا ما طلَّق التي في عِصمته ، وانقضتْ عِدَّتُها ، زال التحريم ، وصحَّ له الزواج بإحْدى هؤلاء القريبات ، حيث زال الوصْف الموجِب للتحريم . الوقفة الثالثة : عقوبة الزنى بالمحارم : قال الشيخ عبدالله المزروع فى بحثه " حكم من أتى ذات محرم " : { اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أربعة أقوال : القول الأول : أن من أتى ذات محرم فإنه يعامل معاملة الزاني مطلقاً سواءً بسواء : وهذا هو قول الحسن البصري ، ومذهب المالكية ، ورواية في مذهب الإمام أحمد ، وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية ، واختيار سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز . أدلتهم : الدليل الأول : قوله تعالى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ? } ( النور : 2 ) . وجه الدلالة : أن الآية عامة في كل زانٍ ، ولم يخص به من زنى بغير ذات محرم له . يرد عليه : 1 – أن السنة ثبتت في قتل من أتى ذات محرم ، فلا يجوز العدول عن هذا النص . 2 – أن إستدلالكم بالعموم غير صحيح ، وذلك لأنكم توافقونا بأن الحكم في هذه الآية خاص بالبكر دون الثيب ، وهذا عُلِمَ من السنة ، فكذلك تخصيص ذوات المحارم ثبت بالسنة ، فوجب العمل به . الدليل الثاني : قوله تعالى : { وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلا } ( النساء : 22 ) . وجه الدلالة : أنَّ الله – سبحانه وتعالى – سمَّى نكاح امرأة الأب فاحشة ، وقد سمَّى الزنا فاحشةً – أيضاً – فقال : { وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ? إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا } ( الإسراء : 32 ) فدل ذلك على مساواته في الحكم . يرد عليه : 1 – أنَّ الله – سبحانه وتعالى – يطلق إسم الفاحشة على غير الزنا من المعاصي ، كقوله تعالى : { وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ? } ( الطلاق : 1 ) قيل : أن خروجها من بيته فاحشة ، وقيل : أن الفاحشة في ذلك أن تستطيل بلسانها على أهل زوجها ، وقيل : أنها الزنا ، فصار لفظ ( الفاحشة ) من الألفاظ المشتركة يتناول كل محظور . 2 – في هذه الآية التي فيها النهي عن نكاح ما نكح الآباء لفظ زائد ، وهو ذكر المَقْت مما يؤكد أن إتيان امرأة الأب – ويقاس بقية المحارم – أشد من الزنا بغيرهن من الأجنبيات الذي ورد في وصفه بأنه " فاحشة " فقط . الدليل الثالث : أنَّ هذا وطءٌ في فرجِ امرأة ، مجمعٌ على تحريمه من غير مِلْك ولا شُبْهَة ملك ، والواطئ من أهل الحد ، عالم بالتحريم فيلزمه الحد ، كما لو لم يوجد العقد ، وصورة المبيح إنما تكون شبهةً إذا كانت صحيحة ، والعقد هاهنا باطلٌ محرم . يرد عليه : أنَّ قياسكم هذا صحيح لو لم يَرِدْ هنا نصٌّ خاصٌ في المسألة ، وحيث ورد هنا نصٌ خاص ، وجبَ الحكم به ، والعمل بمقتضاه . القول الثاني : أن من أتى ذات محرم فإنه يقتل مطلقاً : وهذه إحدى الروايتين عن الإمام أحمد ، وهو قول إسحاق وأبو أيوب وابن أبي خيثمة ، وقولُ جماعةٍ من السلف والخلف سيأتي ذكرهم . أدلتهم : الدليل الأول : عن ابن عباس – رضي الله عنهما – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : { مَن وقع على ذاتِ مَحْرَمٍ فاقْتُلُوهُ ، ومَن وقع على بهيمةٍ فاقْتُلُوهُ ، واقْتُلُوا البهيمةَ } ( رواه السيوطى فى الجامع الصغير وضعفه الألبانى ) . يرد عليه : بأن الحديث ضعيف لا يصح ، فقد قال عنه أبو حاتم في العلل : هذا حديث منكر ، لم يروه غير ابن أبي حبيبة . وقال الترمذي : هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وإبراهيم بن إسماعيل يضعف في الحديث . وقال ابن عدي : وهذا لا يرويه إلا عبد العزيز بن عمران بهذا الإسناد ، وهو منكر . وقال ابن حبان : وهذا باطلٌ لا صل له . وقال البيهقي : تفرد به إبراهيم بن الأشهلي ، وليس بالقوي ، وهو إن صح محمول على التعزير . الدليل الثاني : عن البراء بن عازب – رضي الله عنه – أنه قال : { لقيتُ عمِّي ومعه رايةٌ ، فقلتُ : أين تُريدُ ؟ قل : بعثني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، إلى رجلٍ نكح امرأةَ أبيه ، فأمرني أن أضرِبَ عنقَه ، وآخُذَ مالَه } ( رواه أبو داود وصححه الألبانى ) . وجه الدلالة : قياس ذوات المحارم على امرأة الأب بجامع كونهن من ذوات المحارم . يرد عليه : ستأتي مناقشة هذا الاستدلال عند ذكر أدلة القول الثالث – إن شاء الله – . الدليل الثالث : ما جاء من أنَّ الحجاج أُتِيَ برجل قد اغتصب أخته نفسها . فقال : احبسوه ، وسلوا من هاهنا من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – ، فسألوا عبد الله بن أبي مطرف ، فقال : سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول : " من تَخَطَّى الحرمتين ؛ فَخُطَّوا وسطه بالسيف " . وكتبوا إلى ابن عباس ، فكتب إليهم بمثل قول عبد الله بن أبي مطرف } ( أخرجه العقيلى فى الضعفاء ) . يرد عليه : أنَّ الحديث لا يصح ، ولا تثبت الأحكام الشرعية إلا بعد ثبوت النص الوارد فيها . الدليل الرابع : عن معاوية بن قرة ، عن أبيه ، عن جده أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – { بعثَ أباهُ هوَ جدُّ معاويةَ إلى رجلٍ أعرسَ بامرأةِ أبيهِ فضربَ عنقَهُ وخمَّسَ مالَه } ( رواه النسائى ، وقال عنه الألبانى : حسن صحيح ) الدليل الخامس : عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن أبيه قال : لقد لقِيتُ عمِّي ومعه الرَّايةُ ، فقُلْتُ أينَ تُريدُ ؟ فقال بعَثني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى رجُلٍ أعرَس بامرأةِ أبيه فأمَرني أنْ أقتُلَه وآخُذَ مالَه } ( رواه الطبرانى وسنده ضعيف ) . يرد عليه : أنَّ الحديث لا يصح ، ولا تثبت الأحكام الشرعية إلا بعد ثبوت النص الوارد فيها . الدليل السادس : عن أبي بن كعب أنَّ رجلاً جاء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال : إنَّ فلاناً يدخل على امرأة أبيه . فقال أبي : لو أنا لضربته بالسيف ؛ فضحك النبي – صلى الله عليه وسلم – وقال : " ما أغيرك يا أبي ! إني لأغير منك ، والله أغير مني } ( تاريخ دمشق وإسناده ضعيف ) . يرد عليه : أنَّ الحديث لا يصح ، ولا تثبت الأحكام الشرعية إلا بعد ثبوت النص الوارد فيها . الدليل السابع : عن المغيرة بن شعبةَ – رضي الله عنه – قال : قال سعد بن عبادة : لو رأيت رجلاً مع امرأة أبيه لضربته بالسيف غير مصفح ؛ فبلغ ذلك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال : " أتعجبون من غيرة سعد ! فو الله لأنا أغير منه ، والله أغير مني ، ومن أجل غيرةِ الله : حرَّم الفواحش ما ظهر منها و ما بطن ، ولا شخصَ أغير من الله ، ولا شخصَ أحبُّ إليه العذر من أجل ذلك وعد الجنة } ( أخرجه الحاكم فى المستدرك ) . الدليل الثامن : أنَّ هذا القول هو اختيار جماعةٍ من الصحابة لم يعلم لهم مخالف ؛ فهو قول : 1 – ابن عباس ، فقد جاء عنه أنه قال : { أقتلوا كل من أتى ذات محرم } ( أخرجه إبن شيبه فى مصنفه ) . 2 ، 3 – وعبد الله بن مطرف ، وأبو بردة ؛ فقد جاء عنهما أنهما حكما في رجل زنا بإبنته بقتله ( أخرجه إبن شيبه فى مصنفه ) . وجه الاستدلال به من جهتين : الأولى : أنَّ ابن عباس – رضي الله عنهما – وهو ترجمان القرآن لا يقول هذا الحكم العام إلا بتوقيف من النبي – صلى الله عليه وسلم – . الثاني : أن هؤلاء الصحابة لا يعلم لهم مخالف من الصحابة . الدليل التاسع : أنَّ هذا القول هو اختيار جماعة من التابعين والسلف من أهل العلم والتحقيق : 1 – فعن سعيد بن المسيب أنه قال فيمن زنا بذات محرم : { يرجم على كل حال } ( رواه إبن حزم فى المحلى ) . 2 – وعن جابر بن زيد – وهو أبو الشعثاء ، كما بين ذلك ابن حجر في الفتح – فيمن أتى ذات محرم منه . قال : { ضربة عنقه } ( أخرجه إبن شيبه فى مصنفه ) . 3 – وقال إسحاق بن راهويه : { من وقع على ذات محرم قُتِلَ } ( نقله الترمذى فى سننه ) . 4 – قال الإمام أحمد – كما في مسائل ابنه صالح وإسماعيل بن محمد – : { يقتل ويؤخذ ماله إلى بيت المال } . وقال الشيخ ابن عثيمين في الشرح الممتع : { وهي الصحيحة – أي عن الإمام أحمد – } . 5 – وبوَّب أبو داود في سننه على حديث البراء : بابٌ في الرجل يزني بحريمه . 6 – قال الترمذي في سننه : { والعمل على هذا عند أصحابنا ، قالوا : من أتى ذات محرم – وهو يعلم – فعليه القتل } . 7 – وبوَّب النسائي في سننه الكبرى على حديث البراء : باب عقوبة من أتى بذات محرم . 8 – وسئل شيخ الإسلام – رحمه الله – كما في الفتاوى : عمن زنا بأخته ؟ فأجاب : { وأما من زنى بأخته مع علمه بتحريم ذلك وجب قتله } . 9 – وابن القيم اختار هذا القول في زاد المعاد ، وروضة المحبين . 10 – وهو ما جزم به ( ناظم المفردات ) من أنَّ حدَّه الرجم مطلقاً ؛ كما نقل ذلك المرداوي في الإنصاف . 11 – وهو اختيار الشيخ ابن عثيمين كما في الشرح الممتع . 12 – وهو ما رجحه الشيخ بكر أبو زيد – حفظه الله – في كتابه الحدود والتعزيرات عند ابن القيم . الدليل العاشر : أنَّ هذا القول هو محض القياس الصحيح ، حيث إنَّ : المقيس عليه ( الأصل ) هو : نكاح امرأة الأب . المقيس ( الفرع ) هو : إتيان ذوات المحارم . الجامع بينهما ( العلة ) هو : أنَّ هؤلاء كلهن من ذوات المحارم . الحكم هو : القتل لكل من أتى ذات محرمٍ منه ، محصناً كان أم غير محصن ، بعقد أو بغير عقد . الدليل الحادي عشر : أنَّ العقوبة على قدر الجُرْم ، فعندما غَلُظَ الزنا في هذه المسألة لكونه في ذات محرم زادت العقوبة عليه ، ويدل على تغليظ هذه الجريمة الشنعاء : أ – ما ورد في حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : { لا يدخُلُ الجنَّةَ مَن أتى ذاتَ مَحرَمٍ } ( رواه الطبرانى فى معجمه الكبير وسنده ضعيف ) ب – أنَّ الزنا معدودٌ في الكبائر ، ومعلومٌ أن المعصية تتغلظ بالمكان والزمان ، فكيف إذا كانت هذه المعصية – في الأصل – من الكبائر لا شك أنها تكون من أعظم الموبقات إذا إنضم إليها كون المزني بها من ذوات المحارم ، قال الهيتمي في الزواجر عن الكبائر : { وَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ الزِّنَا لَهُ مَرَاتِبُ : فَهُوَ بِأَجْنَبِيَّةٍ لَا زَوْجَ لَهَا عَظِيمٌ ، وَأَعْظَمُ مِنْهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ لَهَا زَوْجٌ ، وَأَعْظَمُ مِنْهُ بِمَحْرَمٍ ، وَزِنَا الثَّيِّبِ أَقْبَحُ مِنْ الْبِكْرِ بِدَلِيلِ اخْتِلَافِ حَدَّيْهِمَا ، وَزِنَا الشَّيْخِ لِكَمَالِ عَقْلِهِ أَقْبَحُ مِنْ زِنَا الشَّابِّ ، وَالْحُرِّ وَالْعَالِمِ لِكَمَالِهِمَا أَقْبَحُ مِنْ الْقِنِّ وَالْجَاهِلِ .} أه . القول الثالث : أن من أتى ذات محرم فإنه يجب فيه التعزير والعقوبة البليغة : إذا كان بعقد بما يراه ولي الأمر ، أما إذا كان بغير عقد فحده حد الزاني ، وهذا قول سفيان الثوري وأبي حنيفة . أدلتهم : بأن حديث البراء محمول على المستحل ، ويدل على ذلك الأوجه التالية : الوجه الأول : أنَّه ليس في الحديث ذكر الرجم ، بل القتل ، والقتل ليس بحدِّ الزنا ، فثبت بهذا أنَّ الخدَّ هنا لمعنًى خلاف ذلك وهو الاستحلال . يرد عليه : 1 – أنَّ تأويلكم لو كان صحيحاً لقال الراوي : بعثنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى رجلٍ قد ارتدَّ فاستحلَّ امرأة أبيه ، فقتلناه على الردة ، فلمَّا لم يقل ذلك دلَّ على أن ما تأولتموه غير صحيح . 2 – أنَّ الراوي قال : تزوج امرأة أبيه ، فدلَّ ذلك على أنًّ الحكم معلقٌ بهذه الفاحشة ، ويقاس عليها كل المحارم . 3 – أنَّ قولكم : أنَّ هذا ليس بحدِّ الزنا . فنقول : نعم ، لكنه حدٌّ مستقل عن حدِّ الزنا العام ، لِمَا فيه من البشاعة ، فجريمة الزنا كبيرةٌ من الكبائر ، وهو بذات المحرم أشدُّ جُرْمَاً ، فناسب مغايرة الحُكْمِ بينهما . الوجه الثاني : إذا لم يكن في الحديث ما ينفي قول أبي حنيفة والثوري لم يكن حجةً عليهما ، لأنَّ مخالفهما ليس بالتأويل أولى منهما . يرد عليه : 1 – على التسليم بأنه ليس هناك ما ينفي قول أبي حنيفة والثوري : هل يتوقف في المسألة ؟! أم يبحث عن أدلةٍ ومرجحات أخرى ؟! وإذا بحثنا وجدنا أنَّ الأدلة دالةٌ على وجوب قتل من أتى ذات محرم منه . الوجه الثالث : أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – عقدَ رايةً لقتل هذا الرجل ، ولم تكن الرايات تعقد إلا لمن أمر بالمحاربة ، والمبعوث لإقامة حدِّ الزنا غير مأمور بالمحاربة . يرد عليه : 1 – عدم العلم ليس دليل العدم ، فعندما لا نعلم أنَّ هناك رايةً عُقِدَت في غير الجهاد لا يلزم منه عدم وجودها . 2 – أنَّ هناك توجيهاً لعقد الراية أحسن مما ذكرتموه ، وهو : أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – عقد هذه الراية لقتل هذا الرجل ، لئلا يعترض معترضٌ على قتله ، لعلمه بأنًّ هذه الراية قد عقدها النبي – صلى الله عليه وسلم – . 3 – لو كان قتله ردةً لما بعث معه راية ، لأن الراية لا تكون إلا في الحرب ، فهذا دليل على كون ذلك حداً ، كما بعث النبي – صلى الله عليه وسلم – أنيساً إلى المرأة الزانية دون أن يعقد له راية . الوجه الرابع : في الحديث أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – بعثه إلى رجلٍ تزوج امرأة أبيه ، وليس فيه أنه دخل بها ، فإذا كانت العقوبة وهي القتل مقصوداً بها إلى المتزوج لتزوجه دلَّ ذلك على أنها عقوبة وجبت بنفس العقد لا بالدخول ، ولا يكون ذلك إلا والعاقد مستحلٌ لذلك . يرد عليه : 1 – أنه لا يلزم من ارتكاب المعصية أن يكون العاصي مستحلاً لها ، وإلا لكفر كل من عصى الله ! . 2 – أنه إذا كانت هذه هي عقوبة العاقد فقط ، فالداخل والزاني بدون عقد ولو كان باطلاً أولى بهذه العقوبة . 3 – أنَّ هذا من الحيل الباطلة ! فإذا أراد إنسانٌ غير محصن أن يعاشر أحد محارمه ويتخذها زوجةً له ولا يريد أن يقتل ، فليس عليه إلا معاشرتها بدون عقد ! 4 – أنَّ مصطلح ( الزواج ) من المصطلحات الشرعية الواردة في النصوص ، وأما كل عقد أو وطءٍ لم يأمر الله به ولا أباحه ، بل نهى عنه فهو باطل ، ومن سمى ذلك زواجاً فهو متعدٍّ ، والأسماء الشرعية تتلقى من الشارع . 5 – أنَّ من سمى كل عقدٍ باطل ووطءٍ فاسدٍ – وهو الزنا المحض – زواجاً ليتوصل به إلى إباحة ما حَرَّمَ الله ، أو إسقاط حدود الله كمن سمَّى الخنزير كبشاً ليستحله ونحو ذلك ، فهذا انسلاخٌ من الإِسلام ، ونقض عقد الشريعة ! ** نائب رئيس هيئة قضايا الدولة و الكاتب بمجلة التوحيد .