السنوات العجاف التى عاشتها مصر قبل ثورة 25 يناير أحدثت انقلابًا فى المفاهيم والقيم وخلقت نوعًا من الطفيليات الثقافية أشبه ما تكون بالميكروبات الملوثة التى تنقل العدوى حين تنشط فتصيب كل من يتصل بها. طبيعة الطفيليات الثقافية أنها تغتال عقول الناس ولكن بالتقسيط المريح، فتبدأ بتزييف الوعى وتكثف عملها فى التدليس والتشويه وخلط الأمور بإثارة الأكاذيب وتكرارها على مدار الساعة بحيث يتلقاها وعى المستمع ويتآلف معها من كثرة تكرارها، ثم يبدأ فى استقبالها دون أن يهتم ببحثها أو التأكد من صدقها وسلامة مصدرها وكأنها مسلمات الطفيليات الثقافية هذه لعبت فى العصر البائد دورًا خسيسًا فى تشويه الحركة الإسلامية على اختلاف تياراتها حتى صنعت منها بعبعًا مخيفًا يثير القلق فى الملتقى بمجرد ذكرهم. هذه الطفيليات عادت للحياة من جديد فى بعض الصحف الممولة بأموال الفلول وفى برامج التوك شو على الفضائيات إياها، تقرأ أو تشاهد فيرتفع ضغط دمك من كثرة الأكاذيب التى تستمع إليها دون خجل أو حياء من أصحابها، وبعض هؤلاء مع شديد الأسف إعلاميون أكادميون تفرضهم عليك بعض البرامج وبشكل مستمر، وكأنهم مقرر دراسى سخيف وثقيل الدم، على ألسنتهم تسمع كلامًا منسوبًا للتيار الإسلامى عن الخلافة والدولة الدينية و نفاه التيار الإسلامى ملايين المرات ورفضه بشدة، ومع ذلك هناك إصرار على تكراره والتخويف به. الصحف والفضائيات المذكورة راحت تحاول إعادة صناعة أصنام سياسية وإعلامية جديدة لعل أيام الفلول بعزها وعزمها وشريفها وسرورها تعود من جديد فيرفل الخدم الثقافى بالنعم التى زالت بمجيء 25 يناير وما أعقبه من أيام نحسات أغلقت أسواق النفاق وسدت نوافذ التملق وأطلقت السنة الرعية وإرادتهم فى مصير النهابين والظالمين وسراق المستقبل. الجوقة الجديدة تضم إعلاميين وسياسيين وقانونيين يربطهم جميعًا خيط واحد هو خيط المصالح التى زال بعضها بفعل الثورة والباقى فى طريقه إلى الزوال مع استمرارها، ومن ثم لا بد أن يتوقف قطار الثورة عن موالاة المسير حتى لا يحدث التغيير المطلوب من هذه الثورة. الطوفان القادم من رحم النظام البائد اجتمعت كل شرائحه الخائفة من الثورة والتقت كل قواه الناعمة والخشنة، وتكتلت فى استماتة للدفاع عن مصالحها المهددة، ويبدو أنها على استعداد لحرق الوطن كله من أجل تلك المصالح، بينما الشرائح التى ثارت وفجرت فى الشعب المصرى الكامن الحضارى والأخلاقى خبا وهجها، وغاب صوتها وتفتت قواها، وتحولت إلى أيديولوجيات وأحزاب متنافرة، ظن كل منها أنه يقف على أرضية ثابتة وشعبية وحشد جماهيرى يمكنه وحده من الامتداد والسيطرة على الأرض، وبين هذه الأيديولوجيات والأحزاب غاب الرحم الوطنى وتقطعت أوصاله فانكشف سقف الثورة، وأضحت قواها فى العراء بفعل أبنائها البررة، الأمر الذى أغرى قوى الغدر بتوجيه ضربتها المفاجئة للقضاء على الثورة أو على الأقل تشتيت قواها وتمزيق لُحمتها. الخطأ هنا وبغض النظر عن تحليله وحجمه ونصيب كل فصيل منه كان قاسمًا مشتركًا بين كل التيارات الوطنية، بينما الحنكة وخبرة الخبث الطويلة والمتراكمة فى إدارة عمليات التزييف والتزوير كانت أيضًا قاسمًا مشتركًا بين كل الفصائل الخائفة من الثورة. صراع من هذا النوع يلتقى فيه حق أهله مختلفون فيما بينهم، وباطل يخدمه التخطيط والتنظيم والمال والإعلام لمن تكون الغلبة فيه ولو بشكل مرحلى؟ بالطبع ستكون للباطل وهذا ما حدث. الضحية هنا هو هذا الشعب العظيم الصابر من آلاف السنين والمحروم والمحتسب لكل حقوقه المنهوبة على مدار القرون، وحين تراكم غضبه وتحول إلى ثورة حضارية وأخلاقية تحدث عنها العالم بتقدير وإعجاب وأسلم قيادها لأبنائه البررة، ممثلين فى كل التيارات الوطنية لم يكن الجميع على قدر من الوعى بحجم المخاطر وتربص الأعداء فانشغل أبناء الوطن الأحرار ببعضهم كل يتهم الآخر ويعيق حركته، ومن ثم تمددت الحزبية والأيديولوجية على حساب الوطن، وعلت مصلحة الحزب على مصالح الأمة الأمر الذى يوشك أن يغرق سفينة الوطن فى مستنقع آسن لن ينجو فيه ليبرالى أو إسلامى أو ماركسى أو سلفى أو مسلم حر أو قبطى حر. نعم وبالفم المملوء بالمرارة والعقم أخطأت كل التيارات وفى مقدمتها التيار الإسلامى إخوانًا وسلفيين، لكن البكاء على اللبن المسكوب لا يفيد، وجلد الذات لا يؤدى إلى تغيير الواقع، وإنما المهم أن يعلو الجميع على ذاته وأن نخرج حالاً والآن من أسر الحزبيات والأيديولوجيات، وأن يرتفع إدراكنا إلى حجم ما يحتاجه الوطن فى ثورته العظيمة من عمليات الإغاثة والإنقاذ. لابد للجميع من أن يتحامل على جراحه وينسى ما فات، ويمد يديه ويفتح قلبه وعقله لكل التيارات الوطنية مع احترام الخصوصيات، وأن تعلو راية الوطن كل الرايات المرفوعة هنا وهناك، وألا تبقى فى سماء مصر على الأقل فى وقتها الراهن غير راية الوطن كما كنا جميعًا فى ميدان التحرير. وليكف الجميع عن المهاترات التى تؤخرنا ولا تقدم شيئًا، ولنكن جميعًا جزءًا من الحل بدلاً من أن نكون نحن المشكلة. هذا.... أو الطوفان القادم من رحم النظام البائد. مفتى عام أستراليا Email: [email protected]