أسوأ ما يمكن أن تتعرض له مسيرة، أن تضيع منها البوصلة في الطريق. لأن من فقد بوصلته ضل سبيله وضيع هدفه. واحسب أننا في مصر الآن بصدد التورط في هذا الموقف، في ظل تداعيات المشهد الانتخابي الذي تتوالى حلقاته المثيرة، واحدة تلو الأخرى. (1) لقد كان الإعلام هو الإدارة التي استخدمت للإيقاع بنا في المحظور وتضييع البوصلة منا كيف ولماذا؟ في البدء روج الإعلام للحلم، ورفع سقف التوقعات. ذلك انه منذ الإعلان عن التعديل الدستوري في فبراير الماضي (الذي فتح الباب للتنافس بين المرشحين على منصب الرئيس)، فان الإعلام ما برح يتحدث عن “المنعطف التاريخي”، ويروج لبشارات التحول الديمقراطي، ويلح على أن التعديل هو مجرد خطوة على طريق تحقيق الأحلام التي طال انتظارها، ستتبعها خطوات أخرى. في هذا السياق تصور كثيرون أو تمنوا أن تكون انتخابات مجلس الشعب باباً مؤدياً إلى تلك الحلقات الأخرى. ورغم ما شاب المادة 76 التي تم تعديلها من عَوَر أفرغها من مضمونها المعلن، إلا أن ذلك لم يجهض الحلم تماماً، خصوصاً أن تجمعات كثيرة في المجتمع المصري خرجت رافعة راياته ومتعلقة به، بل ومصرة عليه. ولم يكن خافياً على أحد أن شعارات التحول الديمقراطي التي تواتر الحديث عنها في وسائل الإعلام القومية جاءت استجابة لإلحاح وضغط جماهيري شديدين، ومن ثم كان الشوق كبيراً لمواصلة المسار الديمقراطي من خلال الانتخابات التشريعية. ولم يتمن أحد اكثر من أن تجرى الانتخابات في أجواء من الحرية والنزاهة، بما يسمح بتمثيل صادق وأمين للجماعة الوطنية المصرية، الأمر الذي يؤدي إلى توسيع نطاق المشاركة وكسر احتكار الحزب الوطني المهيمن على المجلس منذ حوالي ربع قرن. وهو الاحتكار الذي اضر بالحياة السياسية، وكان أحد الأسباب التي استدعت الرغبة في إجراء الإصلاح السياسي. غاية ما تطلعت إليه أحزاب المعارضة. التي شكلت فيما بينها جبهة باسم “التجمع الوطني للتحويل الديمقراطي”، أن تحصل على ربع عدد مقاعد مجلس الشعب، بحيث تمثل بأكثر من مائة نائب، يكون بمقدورهم تشكيل معارضة قوية داخل البرلمان، على نحو يحيي الأمل في إمكانية الإسهام في تحقيق التحول الديمقراطي المنشود، ومن ثم تصريف الاحتقان الذي يعيش في ظله الوطن. غير أن تلك الأمنيات انقلبت رأساً على عقب بعد ظهور نتائج الانتخابات، بما حملته من مفاجآت لم يتوقعها البعض. (2) على الأقل كانت هناك خمس مفاجآت أدركها كل من تابع الانتخابات، الأولى تمثلت في تدني نسبة المشاركة الشعبية، والثانية كانت تراجع حصة الحزب الوطني وتدهور أنصبة أحزاب المعارضة الأخرى، والثالثة تمثلت في ارتفاع نسبة المقاعد التي حصدها الإخوان المسلمون، والرابعة جسدها غياب تمثيل الأقباط والمرأة، والخامسة أن عملية التصويت شابها لغط كبير، سواء في احتساب الأصوات أو في شيوع الرشوة وتفشي العنف. في مواجهة مؤشرات من هذا القبيل، كان المأمول أن تصبح القضية الأساسية التي ينشغل بها الجميع، من النخبة السياسية إلى الإعلام، هي إنعكاسات النتائج على قضية الإصلاح السياسي واحتمالات التطور الديمقراطي. وان يتطرق الحوار إلى كيفية تقوية موقف أحزاب المعارضة، بما يمكنها من النهوض بمسؤوليتها إزاء الإصلاح المنشود. كان الظن أيضاً أن تستقبل مشاركة جماعة الإخوان بذلك العدد المعتبر من المقاعد الذي لم تفز بمثله من قبل، باعتباره عاكساً لدرجة من الشفافية ومن آيات الانفراج السياسي النسبي، التي تحسب للنظام وتقدر لسياسته، كما أنها تعد مؤشراً إيجابياً على تنامي قوة المعارضة داخل المجلس النيابي الجديد. ودليلاً على استيعابه مختلف القوى السياسية في البلاد. للأسف أن شيئاً من ذلك كله لم يحدث، وإنما شهدنا مفاجأة أخرى كانت على العكس تماماً مما كان مأمولاً. فقد تجاهلت وسائل الإعلام الرئيسية قضية الإصلاح ومعالجة الاحتقان، ونسيت أن ما جرى كان مجرد مشهد انتخابي أريد به أن يحسن أداء السلطة، ويوسع من هامش المشاركة السياسية. ليس ذلك فحسب، وإنما تعاملت الأبواق الإعلامية مع الحدث باعتباره مقدمة لتغيير النظام والسلطة. ومن ثم انتقلت المواجهة الشرسة التي دارت أمام لجان الاقتراع إلى الفضاء الإعلامي بمختلف منابره وقنواته. وارتكزت حملة التعبئة المضادة على محورين أساسيين أولهما: تشويه صورة الإخوان وتلطيخ سمعتهم والتنديد بشعاراتهم، وثانيهما: تخويف فئات المجتمع وترويع الأقباط بوجه أخص، والادعاء بأن الوطن يواجه زلزالاً ينذر بكارثة، وينتظره مستقبلاً أسود. لعب التلفزيون دوراً بائساً في هذا الصدد. حتى رأينا على شاشاته ميليشيات مماثلة لتلك التي شاهدناها أمام اللجان. وبدلاً من أن يكون التلفزيون منبراً يعبر عن أشواق الوطن وتطلعات ناسه الحالمين بغد افضل، تسوده الحرية والعدالة والمساواة بين الجميع، فانه تحول إلى منبر للكيد الإعلامي، وبوق دعاية لتصفية حسابات الحزب الوطني. وطرفاً محارباً ضد بعض فئات الشعب المصري. وهو ما أفسح المجال وأطلق العنان لأصوات المهللين والمنافقين والكائدين والكارهين، الأمر الذي جسد الفوضى التي انتابت المسيرة. وقد أحزنني في القدر الذي تابعته إنني لم اسمع كلمة عن مصير الإصلاح السياسي ولا عن معالجة الاحتقان في الوطن. من ثم فان السؤال لم يعد: كيف نتقدم على طريق الإصلاح، وإنما صار كيف نضرب ما سموه بالتيار الديني ونشل حركته؟ بعدما ضاعت البوصلة فانه في ثنايا التعبئة المضادة على الهواء وعلى صفحات بعض الجرائد، أثيرت أسئلة من قبيل: ماذا ستفعل شعاراتهم في مواجهة أنفلونزا الطيور؟ وما خطتهم إزاء السحابة السوداء؟ وهل لديهم حل لمشكلة الديون الخارجية، ومشكلات المواصلات والبطالة.. الخ؟ لم يكن ذلك أسوأ ما في الأمر. وإنما الأسوأ، وما كان موجعاً ومفجعاً حقاً أن حملة التخويف كان لها صداها في أوساط بعض الأقباط، بمن فيهم نفر من الذين نحسن الظن باتزانهم وحسن تقديرهم، حتى قال أحدهم أن الأقباط سوف يهاجرون من مصر إذا وقع المحظور، وانه يتمنى أن يموت قبل أن يحدث ذلك. (3) في سياق تجاهل حقيقة إننا بازاء مشهد لا يتجاوز حدود المشاركة في إحدى مؤسسات الدولة والنظام، ولسنا بصدد استلام الحكومة أو تغيير للنظام، فان حملة التعبئة المضادة ما برحت تلوح بتجربة طالبان في أفغانستان، وما جرى في إيران والسودان والجزائر. وبدا الأمر مسكوناً بمغالطات من العيار الثقيل، سواء في طبيعة المشهد كما بينت تواً، أو في كون تلك الخبرات التي تم استدعاؤها كانت انقلابية في معظمها، على العكس تماماً مما نحن بصدده، ثم إنها كانت انتقائية أيضاً. إذ لم تكن المقارنة بإسهامات ما يسمى بالتيارات الدينية في المغرب والأردن والكويت واليمن ولبنان وماليزيا وباكستان وتركيا. وكلها ممارسات ديمقراطية عادية لم تستوجب تخويفاً ولا ترويعاً، ولم تستصحب زلازل ولا صواعق ولا هجرات سكانية. الطريف في الأمر أن مشاركة الإخوان في مجلس الشعب ليست جديدة ولا مفاجئة، فهم موجودون من الناحية العملية كأفراد منذ عام ،1976 إذ نجح منهم آنذاك الشيخ صلاح أبو إسماعيل، الذي تكرر نجاحه في انتخابات عام ،79 ومعه عضو آخر هو حسن الجمل. وفي عام 1984 اشتركت الجماعة بصفة رسمية لأول مرة في الانتخابات متحالفة مع الوفد، ونجح من أعضائها ثمانية أشخاص. وفي انتخابات عام 87 اشترك الإخوان مع حزبي العمل والأحرار فيما سمي بالتحالف الإسلامي، الذي رفع آنذاك شعار “الإسلام هو الحل” للمرة الأولى. ومن المفارقات أن الذي صك الشعار آنذاك لم يكن الإخوان، ولكنه الأستاذ عادل حسين رحمه الله، الذي كان أميناً عاماً لحزب العمل. وقد حصد التحالف الإسلامي آنذاك 60 مقعداً، منها 34 لجماعة الإخوان. في انتخابات عام 95 التي خاضها الإخوان في إطار التحالف الإسلامي، رافعين ذات الشعار (الإسلام هو الحل)، وبسبب ملابسات كثيرة فاز التحالف بمقعد واحد، كان لأحد الإخوان. وفي انتخابات ألفين التي تمت تحت الإشراف القضائي، فاز الإخوان بسبعة عشر مقعداً. لم يكن دخول الإخوان إلى البرلمان أمراً مستغرباً إذن، لكن الجديد هذه المرة أمران، الأول انهم لم يدخلوها من خلال عباءة التحالف الإسلامي، وإنما أعلنوا عن أنفسهم بوضوح ولأول مرة في حملتهم الانتخابية، رغم انضمامهم إلى “التجمع الوطني للتحول الديمقراطي”. والثاني انهم القوا بثقل كبير في الحملة مستخدمين قدرات تنظيمية وفنية عالية، ومستعينين بعدد ضخم من المتطوعين الشبان (25 ألفاً)، مما مكنهم من تحقيق تقدم كبير في المرحلتين الأوليين من الانتخابات على النحو الذي يعرفه الجميع. الملاحظة الجديرة بالانتباه أن وجود الإخوان داخل البرلمان، حتى بعددهم الكبير نسبياً في انتخابات عام ،87 كان محدود التأثير. رغم أن أسئلتهم واستجواباتهم غطت مساحات واسعة من رقعة العمل الوطني شملت مجالات الثقافة والتعليم والاقتصاد والصناعة والنقل والإسكان.. الخ، ولا أظن أن الأمر يمكن أن يختلف كثيراً في المجلس التشريعي الجديد، نظراً للأغلبية المقررة للحزب الوطني. وغاية ما يمكن أن يحققوه أن يشكلوا مع أحزاب التحالف الأخرى معارضة قوية، يمكن أن تنشّط دور المجلس، وتزرع بعض الأمل في احتمالات الإصلاح السياسي الذي نسيه الجميع. الملاحظة الأهم في رأيي أننا ينبغي أن نستشعر الأمان والاطمئنان طالما ظل المسار في إطار القنوات الشرعية وملتزماً باحترام الدستور والقانون. ولا ينبغي أن ننسى هنا كيف مر برصانة واحترام اشتراك حزب الله رغم علاقاته بإيران في البرلمان اللبناني، ولم يطنطن أحد ولا روع أحد باحتمالات استنساخه للنموذج الإيراني. وإذا كان هناك من يتحدث عن النجاح النسبي للنموذج التركي ونجاحه في استيعاب الحركة الإسلامية. فلا يغيبن عن البال أن ذلك تحقق عبر ممارسة ومشاركة في التجربة الديمقراطية تواصلت طيلة ثلاثين عاماً، كانت كفيلة بتطوير أداء الحركة الإسلامية، وكسبها لثقة الناس واحترامهم. (4) الإنجاز الذي حقق الإخوان يحملهم بمسؤوليات اكبر من اكثر من وجه. إذ طالما كان الإصلاح السياسي هو هدف المرحلة وواجب الوقت، فهم مطالبون بأن يكونوا عوناً له وليس عبئاً عليه. وليت شعار الإسلام هو الحل، يترجم عند تنزيله على الواقع إلى انحياز للحرية والديمقراطية، ودفاع عن الفقراء والمستضعفين ومعاناتهم من الغلاء إلى البطالة والفساد. ولو انهم تمسكوا بإطار التجمع الوطني للتغيير، ولم يستسلموا للزهو والانتشاء بالانتصار، لكان ذلك تعزيزاً للاحتشاد الوطني. فضلاً عن هذا وذاك فانهم يجب أن يبذلوا جهداً خاصاً لتبديد مخاوف القلقين من صعودهم، وفي المقدمة منهم إخواننا الأقباط، الذين استثارت بعضهم حملات التعبئة والتحريض، باعتبار أن كسب ثقتهم أهم بكثير من كسب المقاعد في البرلمان. هذا إذا وضعنا نصب أعيننا هدف الحفاظ على تماسك الجبهة الداخلية وتعزيز حصون الوطن، باعتباره أولوية قصوى. أخيراً فان الإخوان مدعوون إلى إعادة النظر في صيغة الثلاثينات والأربعينات التي كانت تحصر كل الأنشطة في دعاء واحد، لأن الأمور اختلفت الآن وبات مهماً ومفيداً أن ينفصل مسار العمل الدعوي الذي يبلغ الكافة ويمد الأيدي إلى الجميع، عن العمل السياسي الذي يخوض معترك العمل العام في تنافس مع الجميع. -------------------------- صحيفة الخليج الاماراتية