كعادته عندما يتكلم، فإنه يجبر الجميع على حبس أنفاسه والتوقف أمام كلماته وقفة المدقق المتأمل، لذا استحق المستشار طارق البشرى لقب "الحكيم" الذى صار وصفاً ملازماً له. ومن هنا كان لابد من التوقف مع الدراسة القيمة التى نشرها البشرى على صفحات الشروق يوم الجمعة الماضى 11/ 5 والتى لا تنبع أهميتها وقيمتها من قيمة البشرى القانونية والفكرية فحسب، ولكن لكون كاتبها أحد المقربين للتيار الإسلامى بوجه عام، بل والمحسوب عليهم ومن جماعة الإخوان بوجه خاص، مما ينفى شبهة التحامل أو الرغبة فى إسقاط التيار الإسلامى لدى الجماهير. بل إن أهمية الدراسة المهمة تكمن فى أنها تسلط الأضواء على أخطاء جماعة الإخوان من خلال حزب الحرية والعدالة تحت قبة البرلمان خلال المائة يوم الأولى من عمر البرلمان رغبة فى الاستدراك وإصلاح ما مضى وفات. الإدارة الفاشلة لتشكيل اللجنة التأسيسية يعتبر البشرى أن نواب مجلسى الشعب والشورى تركوا مهمتهم الأساسية فى تشكيل لجنة إعداد الدستور وطرحه على الاستفتاء، ولكنه فتح معركة وجوب استقالة الوزارة ليحل رجاله وقادة حزب الأكثرية محلها، وضغط مجلس الشعب على المجلس العسكرى ليفرض مشيئته ليقيل الوزارة ويشكل وزارة جديدة يرضى عنها حزب الحرية والعدالة لمدة لا تزيد على بضعة أسابيع التى ينتخب فيها رئيس الجمهورية، ويتسلم السلطة كلها قبل 30 يونيه، كما أن حزب الأكثرية البرلمانية أصر على استعراض قوته والتضخيم منها ليسرع فى امتلاك زمام الدولة، وأنه هو من يقرر شئون الدولة، وإن كان ذلك فى نطاق أشهر قليلة جدًا مع الاقتراب من نهاية الفترة الانتقالية. هذا الصنيع من حزب الأكثرية استدعى، كما يقول البشرى، أن تتكتل ضده كل القوى السياسية العاملة فى المجتمع المصرى سواء القوى الموجودة داخل أجهزة الحكم أو القوى المؤثرة فى الإعلام أو غيرها من القوى ذات التأثير الشعبى وصياغة الرأى العام لمقاومة تشكيل الجمعية التأسيسية ولإفشال مسعى المسيطرين على مجلسى الشعب والشورى فيما يملكون من سلطات فى هذا التشكيل، أى أن القوى الأخرى لم تكتف بمقاومة طموح حزب الحرية والعدالة إلى السلطة، لكنها هاجمته فى الساحة ذاتها التى يملك إمكان التعبير عن نفسه فيها، وهى تشكيل الجمعية التأسيسية، وجاءت النتيجة أن ضربت الجمعية التأسيسية المشكلة وفشل تشكيلها، وجاءت عبرة هذا الدرس أن الجماعة المسيطرة على مجلس الشعب التى لا تملك أكثر من 47٪ من مقاعد بالغت فى تقدير قوتها إزاء قوى سياسية أخرى ذات وجود ظاهر فى أجهزة الدولة والإعلام والنخب، وطمحت هذه الجماعة فى بلوغ ما لا تستحقه ولا تستطيع السيطرة عليه، وهو جهاز الدولة، ففقدت ما تستحقه، وهو تشكيل الجمعية التأسيسية، أى أنها رغبت فيما ليس من حقها ففقدت ما هو من حقها. خطيئة قانون العزل السياسى ثانى هذه الأخطاء التى يذكرها البشرى، هى ترشيحات رئاسة الجمهورية، فحزب الحرية والعدالة بعد تردد ملحوظ وتباطؤ فى التقرير، قرر الدفع بأحد مرشحيه، واستقر بعد ذلك على المرشح الثانى منهما بعد استبعاد الأول، وكان هذا استعمالاً لحق الحزب، كما يقرر البشرى، فى التقدم للترشيح، وقد هوجم هذا الصنيع من تيارات سياسية كثيرة، ولكن هذا الهجوم، من وجهة نظر البشرى، غير صائب ولا عادل، لأنه لا يكاد ينكر أحد أن تنظيمًا سياسيًا لديه الحجم الأعلى من مقاعد مجلسى الشعب والشورى يحق له أن يتقدم بمرشحه للرئاسة، وثمة مرشحين مستقلين وثمة مرشحين من أحزاب ليس لها فى مجلس الشعب إلا مقعد واحد. وإذا كان مسلَّم لحزب الحرية والعدالة فى الدفع بمرشح رئاسى سلوك سياسى مقبول، فإن الخطأ الذى وقع فيه الحزب هو تقاعسه عن الإسراع بمحاكمة المسئولين عن نظام مبارك محاكمة سياسية لتوقع عليهم عقوبات سياسية، وأن يعزلوا سياسيًا عن ممارسة العمل العام. ولم يتحرك مجلس الشعب بعد ممارسته سلطته التشريعية لإنجاز هذا الأمر العام، ولم يفعل ذلك إلا بعد أن ترشح من حزب الحرية العدالة من دخل فى التنافس على رئاسة الدولة فى الانتخابات المقبلة، ومن ثم فإن فكرة "العزل السياسى"، كما يعترف البشرى، فقدت عموميتها وتجريدها اللازمين لأى عمل قانونى تشريعى صحيح. لأن قانون العزل السياسى فى هذه الأثناء إنما يعنى أن الحزب المسيطر على الأغلبية البرلمانية يلجأ لسلطة التشريع، ويستخدمها لا من أجل صالح عام فقط، ولكن من أجل إزاحة منافسين لمرشحه على رئاسة الجمهورية. ويكمل البشرى قائلاً: "لقد كان يمكن لحزب الحرية والعدالة أن يقف فى الانتخابات ضد عمر سليمان أو أحمد شفيق ويسقط أيًا منهما لسوابق عملهما مع حسنى مبارك، ولما يتمتع به حزب الحرية والعدالة من شعبية، ولكنه لم يلجأ للعمل السياسى وفنونه واستخدم سلطة المجلس التشريعى ليصدر تشريعًا يزيح به خصومًا سياسيين له فى معركة حامية الوطيس الآن، وبدا الحزب بذلك أنه قلق خائف من منازلة خصم منافس له فى الانتخابات فى المجال السياسى، وهو عمر سليمان ومن بعده أحمد شفيق، رغم ما هما فيه من وهن سياسى وشعبى، ولكن الأكثر خطورة من ذلك أن الحزب استخدم السلطة التشريعية فى تحقيق مكاسب ذاتية خاصة تتعلق باستبعاد مرشح ينافس مرشحه فى الانتخابات، وهذه واحدة من أخطر ما تنحرف به السلطة التشريعية فى ممارستها لسلطاتها الدستورية وأدائها وظيفتها القانونية التى تحتم عليها أمانة الولاية العامة ألا تستخدم إلا فى صالح وطنى عام بتشريعات منزهة عن الشخصية ومتّصفة بما يلزم أن يتصف به القانون دائمًا من صفتى العموم والتجريد. العدوان على المحكمة الدستورية يرفض البشرى فى دراسته ما صرح به حزب الأكثرية من نيته فى إجراء إدخال تعديلات على قانون المحكمة الدستورية وإعادة النظر فى تشكيلها فى وقت تنظر المحكمة دستورية مدى قانونية تشكيل مجلس الشعب الذى يشغل فيه حزب الحرية والعدالة الأكثرية النيابية ومما يترتب عليه أيضًا إعادة النظر فى تشكيل لجنة انتخابات الرئاسة التى يرأسها رئيس المحكمة الدستورية. وهنا يقول البشرى بكل صراحة ووضوح: "فإن حزب الحرية والعدالة، يريد أن يستخدم أكثريته فى مجلس الشعب وسيطرته على المجلس، ويريد أن يستخدم هذه السلطة التشريعية لتحقيق مكاسب حزبية ذاتية، تأثيرًا على المحكمة الدستورية وضمانًا لبقائه ودعمًا لمرشحه فى الرئاسة، وهو ورجاله لا يدركون ما فى قولهم، وأقوالهم من عدوان صارخ على السلطة القضائية وتهديد لواحدة من كبرى هيئاتها. إنه يمارس بذلك خطيئتين، أولاهما أنه يستخدم السلطة التشريعية لا للصالح الوطنى العام، ولكن للصالح الذاتى لحزبه ولأفراد معدودين. وهذا انحراف فى استخدام السلطة التشريعية لا يعادله انحراف آخر، وثانيتهما أنه يريد تغيير هيئة قضائية معروض عليها أمره بوصفه خصمًا فى دعوى، ويهدد بذلك استقلالية السلطة القضائية عن الهيئة التشريعية، وهو فى أضعف الحالات يهدد السلطة القضائية وهيئة بها تنظر دعواه بأنه سيغيرها تهديدًا لها أثناء نظر دعوى هو خصم فيها. وفى كلمات تمثل قمة التجرد، يقول البشرى بأعلى صوته: "إننى كقاضٍ سابق أكاد أصرخ وأستصرخ الآخرين ضد هذا السلوك وأفعل ذلك إبراء للذمة أمام الله سبحانه. التعامل الخطأ مع بيان الحكومة ويمضى البشرى فى تعليقه على الأداء السياسى لحزب الحرية والعدالة، محللاً فى البداية علاقة الحزب بغيره من مكونات السلطة السياسية، فيقرر أن حزبًا كل علاقته بالسلطة السياسية أنه صار يحوز 47٪ من مقاعد مجلس الشعب المختص بإصدار التشريعات ومراقبة نشاط الحكومة، وليس له أى موقع مؤسسى آخر يمكنه منه أن يملى سياسته ويطرحها للتنفيذ الفعلى، وهو يحوز نسبة مرجوحة من الناحية العددية وإن كانت الأكثر نسبيًا، وفى مجلس ليست له أى إمكانات للتنفيذ بحكم تخصصه، وصلته بالرأى العام صلة ذات اعتبار لكنها ليست كافية ولا راجحة إزاء القوى السياسية الأخرى فى مجالات السلطة أو التنفيذ أو الإعلام أو الأعمال، إن تنظيمًا هذه قوته يتخذ من المطالب ما يجعله يطلب السيطرة على موازين الحكم وأجهزته ومؤسساته، سواء السلطة التنفيذية أو الأجهزة المسيطرة على المعلومات وعلى الحركة وذات الصلة بدوائر النفوذ فى المجتمع والإعلام، إنه بذلك يعوزه الكثير من الخبرة السياسية ليستطيع الوصول إلى تقديرات تكون أقرب إلى الصواب وأبعد عن الشطط. ويعلق البشرى على قصة الصراع الشهير بين البرلمان والحكومة الذى قاد فيه حزب الحرية والعدالة البرلمان من أجل رفض بيان الحكومة ومن ثم الإطاحة بها، بأن بيان الحكومة اشتمل على برنامج اقتصادى يصلح خطوطًا محددة لخطة إستراتيجية لإحياء الاقتصاد المصرى وإعادة بنائه فى طريق التنمية المستقلة التى هى عماد السياسة الوطنية المستقلة. ويبدى تعجبه من رفض مجلس الشعب البيان بمجرد إلقاء مختصر شفهى عنه من رئيس الوزراء، وقبل أن يقرأ النواب تفاصيله التى ملأت خمسين صفحة، بل ظل المجلس يناقش بيان حكومة تمضى شهورًا معلومة ومحدودة ظل يناقشه لمدة شهرين من الأشهر الخمسة المحددة لها من بدئها إلى آخر يونيه، ثم رفضه مكررًا رفضه السابق. حزب الأكثرية النيابية وتصرف المهزومين ينكر البشرى وبشدة على حزب الحرية والعدالة أنه تصرف كما تتصرف التنظيمات المهزومة سياسيًا والضعيفة شعبياً، فالملاحظ أنه على رأس القوى الشعبية المنظمة كانت جماعة الإخوان المسلمين بتنظيمها الدعوى الحاشد، وكان الصراع يقوم بين هذه القوى المنظمة وبين ما يسمى بالقوى التلقائية التى تحشد بالتجييش العاطفى من لا تعرفهم من جمهور فى ميدان التحرير، وانتصر الجانب المنظم فى تشكيلات مجلس الشعب بالإخوان وتنظيمهم والسلفيين وتنظيمهم والوفد وتنظيمه والآخرين، حسب هذا الترتيب الذى عكس القوة النظامية، وكان من المأمول أن تتهيأ القوى النظامية بمجلس الشعب مع القوى النظامية فى مؤسسات الدولة وأجهزتها على التآزر والتعاون للعبور بمصر إلى ما يحقق أمانيها، ولكن المسيطرين على مجلس الشعب أثاروا النزاع مع سلطات الدولة الأخرى من أجل السيطرة التامة عليها فلما لم ينجحوا، وهم لم يكن من الممكن أن ينجحوا، تركوا العمل النظامى ولجأوا إلى ما لجأت إليه من قبل القوة التلقائية فى عملها عن طريق ميدان التحرير بواسطة جمهور لا تربطه أربطة تنظيمية. والغريب، كما يذهب البشرى، أن الطرف الفائز فى معركة الانتخابات ومنهم جماعة الإخوان يتصرف تصرف المهزومين فى هذه المعركة ويكرر تجربتهم، وإذا كانت حركة ميدان التحرير من 19 إلى 22 نوفمبر لعرقلة إجراء الانتخابات قد فشلت، وكانت تقوم بها القوى السياسية غير ذات التنظيمات فإن ذوى التنظيمات الذين فازوا فى الفترة التالية قد عادوا يكررون ما سبقهم فيه الحركات التلقائية، وذلك فى جمعتى 27 إبريل و4 مايو 2012، وتركت الجماعة مجلس الشعب، وهو جزء من السلطة السياسية فى الدولة، ولجأت إلى ميدان التحرير ثم ميدان العباسية لا تلوى على شىء. كما يستغرب البشرى بشدة من سلوك مجلس الشعب عندما فشل فى إسقاط الوزارة لأنه لا يملك الوسيلة القانونية ولا الدستورية ولا السياسية، لذلك أعلن عن توقيف جلساته لمدة أسبوع، أى أنه قرر الإضراب عن العمل، وهى أول مرة تلجأ فيها سلطة من سلطات الدولة، فقد يضرب موظفون مثلاً ولكن السلطة ذاتها لا نعرف أنها أضربت فيما عرفنا من تجارب الأمم والشعوب. أما الكارثة التى لم يدركها مجلس الشعب بتعليقه لجلساته ولم يفطن إليها المجلس العسكرى أنه كان يتيح للمجلس الأعلى للقوات المسلحة أن يصدر مراسيم بقوانين فى هذه الفترة إذا استدعت الضرورة الملحة إصدار قانون عاجل جدًا فى حالة تعطل مجلس الشعب. وختاماً.. نكرر أن قيمة ما كتبه البشرى أنه كتب بقلم الصديق الشفوق الذى يرجو الخير والنفع والكارثة الحقيقة عندما يتم تجاهل ما كتبه أو التعامل معه بنفس الروح العدائية التى يتم التعامل بها مع أى نصيحة توجه ل"الجماعة " أو اعتبارها جزءًا من حرب "كونية" أوسع على الإسلام والمسلمين!!!