هناك سؤال يدور فى أذهان الكثير من القراء حول أسباب نجاح التجربة الديمقراطية والتنموية فى تركيا خلال مدة زمنية ليست طويلة، مع أن تركيا كانت معرضة لحالة إفلاس أمام مؤسسات التمويل الدولية حتى نهاية عام 2002، وذلك بعد إفلاس 22 بنكاً خاصاً، وضياع مدخرات شعبية قالت عنها وسائل الإعلام التركية إنها بلغت 80 مليار دولار.. الحقيقة أن أسباب نجاح تركيا كثيرة، غير أن جهد وعمل البلديات وسعيها الدؤوب لحل المشاكل المزمنة أو الملحة أو مشاركتها بقوة فى التنمية المجتمعية هى أحد أهم أسباب النجاح. من الأمور التى لفتت سمعى وأدهشتنى أن بمصر "وزارة للتنمية المحلية" مثلما ورد فى جلسة مجلس الشعب يوم 6 مايو 2012، ومع هذا تعم الفوضى جميع أجهزة المحليات ليس بعد ثورة 25 يناير، وإنما هذه الفوضى والتخبط سمة أساسية، أنا شاهد عليها، طوال عصر النظام الاستبدادى العسكرى ذى الدولة الأمنية.. والأدلة كثيرة لا حصر لها مثلا: فوضى الشوارع والميادين، انهيار أسواق الخضار والفاكهة والأسماك، أحياء سكنية عشوائية، انهيار شبكات الصرف الصحى والمياه، فوضى مواقف الميكروباصات والحافلات العامة ومحطات القطارات والترام، انهيار أفران الخبز، فوضى مواعيد فتح وغلق المحلات التجارية والمقاهى، سيطرة الباعة الجائلين على الأرصفة وجوانب الشوارع والميادين، فوضى حركة مرور السيارات داخل المدن وعلى طرق السفر، تخلف شديد لخدمات طرق السفر، قمامة وقاذورات بكل مكان حتى فى وسط العاصمة.. إلخ، من مشاكل مزمنة، تدمر معنويات الشعب على مدار سنوات ماضية، بينما يتفرج المحافظون ورؤساء المدن والأحياء والوحدات المحلية ووزير التنمية والحكم المحلى على هذه الجرائم الاجتماعية. فى التجربة التركية لاحظت منذ ربع قرن كيف تعمل البلديات العامة أو فى الأحياء والقرى وكيف تتحمل أعباء خدمات الصرف الصحى ومياه الاستهلاك والكهرباء والتليفونات والطرق والجسور وتنظيم الشوارع والميادين العامة وتنظيفها وتجميلها وتشجيرها وإنارتها والمشاركة فى الرعاية الصحية والاجتماعية للمواطنين، ودور فى التعليم والثقافة والفنون والمؤتمرات والندوات المحلية والدولية، كذا لها دور آخر فى الرياضة وفى الحج والعمرة وتوزيع الطعام والشراب ورعاية اليتامى والمساكين وكبار السن، والنساء والأطفال والمعاقين وظائف متنوعة ومهام مجتمعية على درجة عظيمة من الأهمية عند المواطنين.. فى عمل ملاصق للجمهور بشكل يومى ومواجهة شديدة مع الواقع الميدانى. هذا العمل البلدى كان السبب الرئيس فى شهرة وثقة أهالى إسطنبول – من بعد كل تركيا- فى رجب طيب أردوغان، بما قام به من جهد فى بلدية حى باى أوغلو بالقطاع الأوروبى للمدينة التاريخية.. ثم جاء الدور عبر الانتخابات الحرة والنزيهة فى عام 1994 ليصبح "عمدة اسطنبول"، فيقوم بجهد جماعى واسع لحل مشاكل المياه والصرف الصحى والنظافة وإنشاء خطوط المترو والترام وتحديث أسطول نقل الركاب فى المدينة لمواجهة أزمة بطء حركة المرور ونوم المواطنين داخل الحافلات العامة بعد عودتهم من يوم عمل طويل ومضن. فى الحالة التركية لا يمكن القول إن طيب أردوغان أو حزب الرفاة أو حزب العدالة والتنمية هم وحدهم الذين قفزوا بالتنمية المجتمعية فى تركيا.. لكن جميع الأحزاب السياسية التى تولى رموز منها قيادة البلدية العامة أو الفرعية، هنا أو هناك، خلال الربع قرن الماضى، شاركوا فى الحلول ولا يزالون كذلك لليوم.. بلديات منتخبة فى منافسة انتخابية قوية جداً والشعب يختار رئيس البلدية وأعضاء مجلسه.. كل حزب يدفع بأفضل العناصر لديه لقيادة بلدية ما، فيجد نفسه – إذا فاز – فى سباق محموم، مع بلدية محافظة أو حى سكنى ملاصق له، لأنه لا يستطيع أن يتقاعس عن تقديم الخدمات والناس ستحاسبه فى مكتبه وفى الصندوق فى أول انتخابات، لأنها تراقب وتنظر لعمل بلدية الحى الملاصق وتقارن وتقول: هل انتخبناك لكى تنام؟ أو تقول له برافو. أما البلديات والمحليات فى مصر، فعلى العكس التام، مما يحدث فى تركيا، لأنه لا توجد انتخابات حقيقية، بل تعيينات تتم بتزوير إرادة الجمهور، وهى سمة كانت أساسية للنظام الديكتاتورى العسكرى والأمنى الذى حكم مصر طوال الحقب الماضية.. مما جعل العمل البلدى والمحلى عبارة عن سبوبة أكل عيش أو رشوة أو لمجاملة مفضوحة، والولاء ليس للجمهور ولحل مشاكله، وإنما للسيد اللواء المحافظ، والجميع من المعينين يدين بالولاء للسيد الرئيس، أما مطالب التنمية والتطور المجتمعى فلهما الجحيم! والحال أن وضعوا مصر فى جحيم التخلف.