لعل بعض الناس يتساءلون .. لماذا لم تكن دلالات كثير من آيات القرآن الكريم قطعية محكمة المعنى حتى لا يختلف المسلمون حول معانيه بدلا من نزول بعضه محكم وبعضه متشابهه ؟ والجواب ببساطة أن المحكم والمتشابه في كتاب الله ينبع من منهجية كاملة وهو منصوص عليها بآية قرآنية محكمة وبشكل واضح وليس استنتاجا ولا اجتهادا .. ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه ايات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تاويله وما يعلم تاويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب ) والمحكم هو ما له معنى واحد فقط ، والمتشابه هو ما له عدة احتمالات .. وهذه الاحتمالات إما أن تكون كلها صحيحة ومقبولة وإن كان بعضها أرجح من بعض .. وإما أن تكون احتمالات خاطئة تخالف المحكم أو المأثور الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إجماع الصحابة أو تأويلات لاتحتملها أساليب اللغة ولا السياق القرآني .. وهنا تكمن فائدة وحكمة تعدد الاجتهادات الصحيحة في فهم الآيات المتشابهات من ناحية . ومن ناحية أخرى .. فإن وجود الآيات المتشابهات في كتاب الله يبقى على جدلية الصراع بين أهل الزيغ من ناحية وبين الراسخين في العلم من ناحية أخرى .. وأهل الزيغ موجودون في كل عصر مارسوا الزيغ والغي والتشويش والتدليس والكذب وقت نزول القرآن .. وسوف يستمرون في ممارسة غيهم وزيغهم وتدليسهم وكذبهم في اتباع المتشابه وإهدار المحكم .. وإهدار الماثور عن رسول صلى الله عليه وسلم والتشكيك المستمر فيه وإهدار كل موارد التفسير .. وتزييف الحقائق القرآنية الكبرى .. كمحاولتهم المساواة بين الكفر والإيمان والولي والقديس .. والتوحيد والثليث ، وفي المقابل سوف يتصدى لهم الراسخون في العلم في كل عصر ومصر .. لتظل القضايا والحقائق القرآنية محل خلاف وجدال بين اهل الحق واهل الزيغ متوهجة في الأذهان حتى يوم القيامة .. تملأ الأفاق والفضائيات والصحف ومواقع التواصل ونقاشات الأفراد والمؤتمرات .. وليظل الصراع بين أهل الحق وأهل الباطل مشعلا جذوة هذا الدين والحمية لكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ؛ ولذلك يجب ألا تزعجنا الخلافات بين المفسرين بعضهم البعض .. بل ولا بين المسلمين وأهل الزيغ من العلمانيين ومنكري السنة .. فهذه الخلافات هي أكبر داع لبقاء قضايا الإسلام حية وتظل معاني القرآن مجالا رحبا تمارسه الأجيال جيلا من بعد جيل للبحث وللتفكير بل والتعصب المحمود للدفاع عن الدين والالتزام بقضاياه وشرح آياته وأحكامه ، وفي ذات الوقت يظل فتنة وابتلاء ومحل اختبار دائم ومستمر لقوة إيمان المؤمنين به والمتشككين فيه . وهذا ما تفرد به كتاب الله عزوجل ونص عليه صراحة .. وكان أحد أوجه الإعجاز البلاغي الذي تحدى الله به بلغاء العرب .. ولايمكن المقارنة بينه وبين كتب السابقين .. فرق بين السماء والأرض .. بين نصوص التوراة والانجيل التي كتبها بشر بأساليبهم المختلفة أو تلك التي ترجمت الى العربية والى العديد من اللغات والمترجم خائن بطبيعة الحال .. وكل ماهنالك ان هناك من فسر بعض النصوص بالرمزية وبعضهم حملها على الحقيقة ولكن لأنها من أساليب البشر لم يحفل بها أحد ولم يترتب عليها اختلاف في الأحكام حيث الرمزية كانت في القصص والأساطير التي حفلت بها .. ولاتجد من يستلهم منها معان متجددة كالقرآن الكريم .. بل هي كتب فقدت توهجها حتى وإن اشتملت على بعض الرمزية .. لذلك قلما تجد يهودي او نصراني من غير رجال الكهنوت يبحث بنفسه في تفسير الكتاب المقدس كما هو الحال في الاسلام .. فتفسير القرآن على وجه القطع لا يعلم إلا بأن يسمع من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، وذلك متعذر إلا فى آيات قلائل .. لذلك يظل النقاش والجدال الذي يحث كل جيل على البحث والتدبر قائما حتى يوم الدين