منذ أوائل الحقبة الاستعمارية توالت نداءات المفكرين الغربيين بأن يعملوا علي أن يظل دعاة الفكر الإسلامي الشمولي ، التي تسميها توابعهم الثقافية في بلادنا حتى الآن الإسلام السياسي ، داخل قمقم مغلق وبشكل محكم لأنهم القادرون علي إيقاظ شعوبهم ضدنا مما يسهم في تعطيل مصالحنا . وبالطبع سايرهم أتباع الأطماع الاستيطانية من مفكرى اليهود من أمثال برنارد لويس في ضرورة التحالف مع ساسة الاستعمارعلي إحكام القبضة علي أبواب هذا القمقم بالشكل الذي لايسمح بظهور قادة من المسلمين الشموليين يفسد عليهم مشاريعهم المعادية ، وعبر بعضهم عن هذه المخاوف بوضوح حين ذكر أن هذا الدين بمنهجه الشمولي قد استطاع أن يجعل من قلةمن الهامشيين علي الخارطة السياسية سادة للأرض في غضون نصف قرن . لقد كان هذا المنهج من القوة بحيث استطاع صهر الحضارات العريقة التي انضوت تحت لوائه وتحويلها إلي جزء من حضارته ، كما استطاع أن يمتص الشعوب التي هاجمته ويصهرها فيه ويحولها إلي قوة له بعد إلمامها بمنهجه كالمغول ، وهي نفس القوة التي استطاعت أن تغزو موجاتها أوربا وتستقر فيها وتفرض عليها أسلوبها البربري كالفرنجة والجرمان والسكسون والقوط والسلاف وغيرها . وفي نفس الوقت استطاع المسلمون بمنهجهم أن يلفظوا من جاء ليعتدي عليهم ولم ينصهر فيهم رغم موجات الهجوم العاتية التي استمرت لقرون كالحملات الصليبية . لقد استطاع أتباع هذا المنهج أن يتغلبوا علي مواطن ضعفهم ويقهروا كل من يعتدي عليهم ، فكلما ظن بهم أعداؤهم أنهم قد ضعفوا واستكانوا ويمكن النيل منهم ينفضوا غبار ضعفهم ويتصالحوا مع منهجهم ويفاجئوا عدوهم في أغلب فترات تاريخهم . فحين هيأ الغرب الاستعماري بعد حملة نابليون وفي ظل حصار الإنجليز الظروف لمغامر مثل محمد علي وساندوه علي أن يفصل بين الناس وبين منهجهم ، وأن يستورد لهم منهجا ينقلهم إليه ولايعير اهتماما لمنهجهم في أغلبه ، ثم ساعدوه علي ضرب الدعوة الإسلامية في جزيرة العرب التي عارضت مشاريعهم في البحر الأحمر والخليج العربي ، رفضت الشعوب هذا التوجه رغم أنه قد حمل لهم ظاهريا ملامح التحضر ،فاستمرت الدعوة السلفية ، وقام المصريون خلف عرابي ثائرين وفق ثوابتهم الإسلامية وحاربوا الإنجليز ، ولم تهزهم الهزيمة بل التفوا حول مصطفي كامل ومحمد فريد وعبد العزيز جاويش . وحين أدرك الناس بحس منهجهم فرض الاتجاه العلماني والإقليمي التفوا حول الجماعات الإسلامية الشمولية . وكان علي الإنجليز أن يوقفوا هذا التيار الذي خرج من القمقم ويعملوا علي إصدار قوانين تجعل هذه الجماعات محظورة ، محظورة من حيث النشاط السياسي ، وتستمر من حيث النشاط الذي يسهم في تخفيف هموم الناس حتي يخلوا الميدان لمن يريد الحفاظ علي مكانته ومكاسبه ويسلب الناس حقوقهم. وإذا جاز قبول توافق الإنجليز مع ثقافتهم وتاريخ موقفهم من الدين فهل يقبل به أصحاب ثقافتنا الإسلامية الموروثة من مسلمين ومسيحيين شاركوا في صنع هذا الرصيد الحضاري ؟ وهل هناك أي فرق في هذا الرصيد الحضاري أو هذا المنهج بين الدين والسياسة مهما وجد المعارضون ضالتهم في بعض التجاوزات التاريخية ؟ . وإذا كانت الظروف السياسية إبان القرن الماضي قد فرضت وجود مثقفين ممن ولوا وجههم شطر الغرب العلماني أو الشرق الماركسي وأقروا وفق ثقافتهم بفصل الدين عن السياسة فهل من دورهم أو من حقهم أن يفرضوا ثقافتهم علي الأغلبية التي مازالت وستظل متمسكة بثوابتها الثقافية ؟ وهل من حق هذه القلة أن تواصل فرض ما أقره الاستعمار من جعل نشاط الاتجاه الإسلامي الشمولي المعبر عن إرادة الأغلبية محظورا ؟ . ولعلنا هنا نسترشد بتجربة اليابان حين أرسل امبراطورها وفودا من اليابانيين لتلقي العلم في الغرب ، وكان في مقدمة المستقبلين لهم عند العودة ، ثم اصطحبهم إلي قصره وأعد لهم موائد طعام يابانية وأخري غربية وترك لهم الخيار في تناول الطعام ثم قام بسجن كل من تناول الطعام الغربي ونسي طعام بلاده ، فكان تعبيرا حمله تاريخ اليابان الحضاري من حيث التمسك بثوابت بلاده مع الأخذ بكل أسباب التحضر بعد ذلك ، فكانت اليابان المعاصرة . إن دوام التعلق بمصطلح جماعة الإخوان المحظورة ينم عن خوف من مناظرتها منهجا وواقعا ، وينم عن جهل أو تجاهل لثوابت الأمة الحضارية ، وينم عن جبن من بقايا النفعيين وحملة المباخر، فهل هناك تصديق لديمقراطية تقوم علي الخوف والجهل والجبن ؟ . لقد جاء الدرس الأخير في مناصرة الشعب للتيار الإسلامي ممثلا في جماعة الإخوان المسلمين ( المحظورة ) ، ورغم كل أطواق التضييق والقهر والحظر ، أصدق تعبير عن ضرورة المصالحة مع الشعوب في ثوابتهم قبل مصالحهم ، لقد ابتعد الشعب عن رموز لوحت له بتحقيق قدر هائل من المصالح ومن خلال تواجدهم في مواطن السلطة والتأثير واختاروا من يتوافق مع ثوابتهم رغم الحظر ممن لايملكون تحقيق أي من هذه المصالح ، لايملكون سوي المشاركة في خندق الدفاع عنها ، فهل لاينبغي أن يطوع القانون لرغبات الشعوب أم يبقي مفروضا من قبل القلة عليهم ؟ لقد أدرك الغرب أنه من الخطأ الاستمرار في تجاهل اختيارات الشعوب حفاظا علي استمرار مصالحه علي المدى البعيد ، فهل سندرك نحن هذا المغزى ؟ --------------------------------------- أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر