كثيرة هي الشخصيات التي لمع اسمها في تاريخ مصر في عصرها الحديث . فمن هذه الشخصيات من برز أسمه في المجال السياسي ، أو في المجال الاقتصادي ، أو في المجال الثقافي والفكري ، و الشخصية التي سنتحدث عنها في هذه السطور تعد من أشهر أعلام النهضة الفكرية في تاريخ مصر في عصرها المعاصر ، ومن أبرز الشخصيات المؤسسة للفكر التنويري في مصر في النصف الأول من القرن العشرين الميلادي ، وهي شخصية العالم المصري والفيلسوف الإسلامي "مصطفي عبد الرازق" . تكونت شخصية هذا الرجل في بيئة علمية أصيلة بصعيد مصر. فوالده هو الشيخ حسن أحمد عبد الرازق أحد مشاهير قرية "أبو جرج" التابعة لمحافظة المنيا . ففي هذه القرية ولد الشيخ مصطفي عام 1885م ، وتعلم في كُتابها ، ثم أرسله والده إلي الأزهر لاستكمال تعليمه ، وهناك تعرف علي الشيخ محمد عبده ودرس علي يديه حتى تكونت لديه روح التجديد والتغيير ، لذا أنضم إلي جمعية "تضامن العلماء" التي نادت وقتها بإصلاح الأزهر ، ولكن مع زيادة الاضطرابات في الأزهر وتفاقم أزمة الإصلاح أضطر الشيخ مصطفي عبد الرازق إلي الابتعاد عن بؤرة الأحداث لفترة قضاها في أوروبا لتحصيل العلم ، وعلي الرغم من رفضه لفكرة السفر في البداية إلا أن هذه الخطوة كان لها أثراً كبيراً في تشكيل فكره التنويري ووعيه الثقافي بعد ذلك . سافر الشيخ مصطفي عبد الرازق إلي أوروبا في عام 1909م، وأول ما توجه إليه كانت "فرنسا" التي أعجب بها أعجاباً شديداً لدرجة أنه وصف باريس بأنها " موجود حي، تنبعث الحياة من أرضه وسمائه وصبحه ومسائه، ورجاله ونسائه... باريس عظيمة بكل ما تحتمل هذه العبارة من معاني الحياة والإجلال والجمال والذوق والفكر والانسجام والخلود... " ، وعندما توجه إلي إنجلترا - في رحلة أخري - أعجب بنظامها ومدنها ، حيث وصف العاصمة "لندن" وصفاً راقياً ذكر فيه أنها "مدينة فخمة متباعدة الأطراف تموج بساكنيها وتمتاز بالنظافة والنظام في مظهر عزة وجد وحشمة " . وأما عن الثقافة الأوروبية فقد تأثر بها تأثراً كبيراً لدرجة أنه كان يقارن في أغلب كتاباته بين الاختلافات الحضارية التي كان يلاحظها بين مصر وأوروبا ، وهو ما يمكن ملاحظته في مقالاته التي كتبها في الجرائد والمجلات المصرية مثل مجلة "مجلتي" التي نشر بها مقالات في هذا الشأن تحت مسمي " بين الأزهر وباريس أندية الأفندية وأندية المشايخ " ، و "بين دار العلوم وباريس" ، و " في أوروبا المشية الجديدة " ، وذلك بجانب ما نشره من مقالات في مجلة "السفور" حاول فيها إبراز الرقي والنظام الأوروبي بشكل عام مثل ما نشره تحت عنوان "الأسرة" والذي ناقش فيه نظام الأسرة الأوروبية قائلاً " أعجبني من الأسرة الأوروبية ما فيها من الحياة والنظام والصراحة ومظاهر السعادة " . لقد كانت أوروبا من أهم المحطات الحياتية التي تدخلت بشكل مباشر في تكوين فكره التنويري المجدد. فإعجابه الشديد بالنظم الحضارية الأوروبية ، ودراسته لبعض العلوم في أوروبا (كالفلسفة والأدب) علي يد أكبر الأساتذة المتخصصين أمثال ( إدوارد لامبير ، ودركهايم ، وجوبلو ) ، كل ذلك جعله علي درجة كبيرة من الوعي بالآخر الأوروبي ونظمه الحضارية المتطورة آنذاك ، لذا أخذ علي عاتقه مهمة إبراز الفارق الحضاري بين مصر وأوروبا بهدف "التجديد والإصلاح" ذلك الوقت ، وظل متمسكاً بكل أفكاره التنويرية حتى وافته المنية في 15 فبراير من عام 1947م.
باحث و مدرس جامعي - بجامعة حلوان عضو الجمعية المصرية للدراسات التاريخية ساهم ببعض المقالات الثقافية في مجلات ( الهلال - الثقافة الجديدة - مجلة المجلة )