لا أعرف يقينا ما إذا كان هناك صلة حقيقية بين وصول الجنرال خليفة حفتر إلى القاهرة اليوم وبين الغارات المدمرة التي شنتها طائرات التحالف الدولي ضد مواقع تنظيم داعش جنوبي سرت والتي تنسق تحركها هناك مع كتائب موالية لحفتر ، ولكن المؤكد أن هذه الغارات ستكون حاضرة في حوار حفتر مع المسئولين المصريين ، لأن تلك القوات التي تشكلت جنوبي سرت يعرف الليبيون أن حفتر طرف فيها والأهم أن حضور قوات التحالف الدولي في المواجهات مع الإرهاب في ليبيا يقلص الدور الإقليمي ، بل ويقلل الدور الروسي نفسه ، الذي يبدو أنه غير مسموح له بلاعب دور رئيس في الأزمة الليبية . زيارة حفتر تأتي في سياق زيارات متعددة لوفود ليبية متنوعة زارت القاهرة مؤخرا والتقت قيادات عسكرية وديبلوماسية وأمنية ، منها ما هو محسوب على مجموع طبرق وعقيلة صالح والبرلمان المنتهي ولايته ومنها ما هو محسوب على حكومة طرابلس والقوى الفاعلة هناك ، بل إن وفدا من مصراته المعقل الأهم للإسلاميين زار القاهرة مؤخرا ، وهذا يحدث لأول مرة منذ بداية الثورة الليبية ، وكانت أصواتنا قد بحت من مطالبة مصر بالانفتاح على كافة ألوان الطيف السياسي الليبي ، حتى لا تخسر مصر دورها التاريخي في ليبيا ، وقلنا أن الرهان على خليفة حفتر هو رهان خاسر وستدفع فيه مصر ثمنا كبيرا ، من مصالحها ومصالح شعبها ومن أمنها أيضا ، ولكن أحدا طوال ثلاثة أعوام لم يسمع ولم ينصت ولم يستجب ، وظلت علاقات مصر محصورة مع خليفة حفتر والديكور السياسي الموضوع في خلفيته والمتمثل في برلمان طبرق ، ودعمت مصر والإمارات حفتر وراهنوا عليه على أساس أنه قادر على أن يحسم الأمور على الأرض عسكريا ويعلن حاكما عسكريا على عموم ليبيا ، غير أن الأحداث أثبتت أنه "غرز" في بنغازي منذ أكثر من عامين وما زال غير قادر على بسط سيطرته عليها ، مما أحرج داعميه ، وجعل المجتمع الدولي أقل اعتمادية عليه ، واتجهت الأنظار إلى القوى الفاعلة في طرابلس ، وانتهت محادثات "الصخيرات" المغربية برعاية دولية إلى تشكيل حكومة الوفاق والمجلس الرئاسي وأنه السلطة الشرعية التي يتعامل معها العالم الخارجي ، ومع ذلك ظلت المعاندة قائمة وإن بدرجة أقل في القاهرة ، حتى نجحت القوات المسلحة المنضوية تحت قيادة حكومة الوفاق في طرابلس في دحر تنظيم داعش الإرهابي من مدينة سرت ، فكان نجاحه برهانا جديدا أمام العالم على أن الرهان على حفتر في مواجهة الإرهاب كان "تهريجا" ، فلم يخض حفتر حربا واحدة ضد داعش ، ناهيك عن أن ينتصر فيها ، وكل معاركه مع ثوار ليبيين في درنة وبنغازي ، ثم وصل الأمر إلى تنسيقه تحركات عسكرية خطيرة مع فلول داعش في درنة ثم في سرت ثم في بنغازي ثم محاولات التنظيم التحوصل من جديد في الصحراء جنوبي سرت بتنسيق واضح مع بعض الكتائب الموالية لخليفة حفتر ، فجاءت ضربة التحالف الدولي اليوم لتؤكد على أن المجتمع الدولي لا يثق إلا في حكومة الوفاق بطرابلس كشريك ليبي جاد وحقيقي في الحرب على الإرهاب ، وهو ما يضع مستقبل حفتر على المحك . ما يهمنا من هذا كله هو أن مصر ، بعد طول تخبط وانحياز غير عقلاني وغير واقعي لجنرال مغامر أوهمها أنه رجلهم هناك وأنه قادر على الحسم ، اضطرت في النهاية إلى فتح خطوط الاتصال والتنسيق مع جميع القوى الفاعلة في ليبيا ، بمن فيهم ثوار طرابلس وأحزابها وحكومة الوفاق ، بل وأعلنت مصر مؤخرا أنها على مسافة واحدة من الجميع هناك ، وهو الموقف الذي طالما نادينا به من قبل فلم يسمع أحد ، وعلى كل حال أن تأتي متأخرا خير من أن لا تأتي ، والأهم الآن أن يكون ذلك الموقف المتوازن حقيقيا وجادا وليس مراوغة أو محاولة لكسب الوقت . الرهان على حفتر كان كارثة ، والمصالح المصرية في ليبيا تختلف تماما عن مصالح الإمارات ، والحسابات مختلفة ، ليبيا هي عمق أمني وسياسي واقتصادي لمصر ، ولا يمكن لأي سياسة عاقلة أن تتعامل باستهتار أو رعونة في هذا الملف ، ويكفي ما تعرضت له مصر من مهانة على يد تنظيمات إرهابية هناك ، نالوا من مواطنيها ، دون قدرة على فعل شيء ، لأن رجلها هناك أو من كانت تتصور أنه رجلها ثبت أنه نمر من ورق .