ليس لأحد أن يدَّعى أنه يصنع الحدث، وليس لأحد مهما كان غروره وكبرياؤه إلا أن يسلم بأن الله يدبر الأمر، وأن الأمور تسير فى اتجاه القضاء على الفساد، وفى كل مرة تأتى بأكثر مما يتوقع المتفائلون، فقط نفتش عن الأسباب الظاهرة، لنتعامل معها مؤمنين بأن الله هو الفعَّال على الحقيقة، وأننا فقط نأخذ بالأسباب طلباً للأجر. يتحدث بعض منظّرى العلمانية عن "القواعد الانتخابية الجاهزة" للتوجهات الإسلامية، وأنها هى التى ركبها الإسلاميون لمجلسى الشعب والشورى، ويُعرِّض بأن الحالة الإسلامية لا تلقَى قَبولاً لدى الناس، وإنما فقط قواعد انتخابية تستغفل الجماهير وتحركهم! وقوله مردود؛ فإقامة قواعد انتخابية أمر سهل ميسور على غير الإسلاميين، وخاصة أنهم يعملون فى السياسة منذ قرنٍ - أو يزيد - من الزمن، ولهم من الإمكانات المادية ما ليس لغيرهم، فلِمَ لا يملكون قواعد انتخابية؟!، ولِمَ لا تقبلهم الجماهير؟! والقيادة السياسية الإسلامية من الإخوان والسلفية يحسبون أن الناس خلفهم، وأن تلك الملايين التى صوّتت لهم فى الانتخابات البرلمانية بالباب تنتظر إشارتهم للعودة للصناديق ثانية لتصوت لمن يؤيدون، أو يحسبون أن "قواعدهم الجاهزة" تستطيع تحريك الناس حيث شاءوا ..متى شاءوا؟! والحقيقة أننا أمام واحدة من عجائب الحراك السياسى فى واقعنا المعاصر، وهى: أن الجماهير هى الفاعل الرئيسى فى الحدث، وأن الجماهير فى حالة وعى كامل، ومستوى عالٍ من التمييز، والمرونة العالية، وتتحرك فى مجملها حركة واعية، طلباً لقضايا محددة، وتستطيع الجماهير أن تغير من مواقفها تبعاً لمصالحها. ليس من قضايا الجماهير إقامة ليبرالية، أو تطبيق الشريعة الإسلامية؛ إذلم يفلح الخطاب الإسلامى إلى اليوم فى جعْل قضية تطبيق الشريعة الإسلامية هى القضية الأهم فى حياة الناس، وإن غاية ما يدركه الناس من الخطاب الإسلامى هو أنه المقابل (المعارض الحقيقى) للحالة العَلمانية الظالمة، وأن رموزه وأفراده من فضلاء الناس؛ ولذا يجنح الناس إليهم أملاً فى الوصول إلى قضيتهم الأساسية، وهى: تحسين مستوى معيشتهم، لا حملاً لقضايا الإسلاميين الخاصة، وعلى رأسها "تحكيم الشريعة الإسلامية". ودليل ذلك أن بعض المناوئين للإسلاميين ينجحون فى الانتخابات باكتساح، وعند دراسة هذه الحالات نجد أنهم من ذوى المروءات، والخدمة العامة للناس. فنحن فى وادٍ والجماهير التى خلفنا اليوم ونستأنس بها فى وادٍ آخر. وخطر هذا الملحظ أن الجماهير يمكن صرفها من خلف الإسلاميين بسهولة، فقط بتحسين الوضع المعيشى، وقد حصل من قبل فى ثورة 1952م، بتوزيع أراضى الإقطاعيين عليهم، ولو جاءهم اليوم عَلمانى ووزع عليهم أملاك إقطاعيى الاقتصاد الذين خلّفهم عصر الفساد، أو ملَّكهم الصحراء الواسعة لانصرفوا إلى "أطيانهم"، وتركوا الإسلاميين وحدهم، وتدور رَحاها ثانية على الإسلاميين كما حدث فى عهد عبد الناصر، فهذا المتكأ (الجماهير) من السهل جداً سحبه، وفى وقت قصير. وأعتقد أن تأخر سحب الجماهير من الإسلاميين ومن ثَم الدخول معهم فى صدام يحجّمهم أو يذهب بهم، سببه الرئيس هو اختلاف أجنحة "المخالف"، ولو حسموا أمرهم واجتمعت كلمتهم على واحدٍ منهم لاستداروا للإسلاميين. وحين تدقق النظر فى نواحيها تجد أن الحل فى المسلك الذى ينتهجه الأستاذ حازم أبو اسماعيل؛ إذ قد توجَّه مباشرة لخطاب الجزء العاقل والفاعل فى المشهد المصرى، وهو الجماهير، بخطابٍ يجمع بين الهُوية الإسلامية وحلِّ مشاكلهم، أو يحل مشاكلهم بالهوية الإسلامية؛ ولذا وجد قَبولاً عند عامة الناس، من الطبقة المتوسطة ودون المتوسطة. ويبدو خطاب "أبو إسماعيل" حلاً سريعاً، وطريقة مُثلى لقيادة الجماهير لحلٍّ سلمى للقضية المصرية كلها، بل وما تبقى من الأمة العربية والإسلامية؛ إذ أن احتشاد الجماهير خلف خطابٍ إسلامىٍّ واعٍ هو الضمانة لفض عزم "المخالف" عن العودة للمشهد من جديد. فاجتماع الكلمة الآن هو السبيل للحصول على حريات حقيقية، ومن ثم الدخول فى بناء الدولة حقيقة، ثم الأمة بعد ذلك. والمعركة تدار الآن بمحاولة تفتيت الصف الإسلامى، وتشتيته، بتكثير عدد المرشحين منه، أو بصرف ولاءات بعض أجزائه؛ لينصرف عامته عن الخطاب الذى يحل مشاكل الجماهير ويُعلى من الهوية الإسلامية، وخطة التفتيت تبدو قليلة الفائدة، وخاصة أن عامة التوجه الإسلامى قد انحازوا لخيار أبو إسماعيل، ولكن يبقى- كورقة أخيرة- تحريك "قواعد الإسلاميين" الانتخابية فى مواجهة خطاب الهوية الإسلامية الجماهيرى. وتقتضى المعركة الانتخابية أن ينهض المهتمون بنجاح أبو إسماعيل، وبنجاح الخيار الجماهيرى غير الحزبى فى تكوين "فرق عمل" انتخابية حرة، وترتيب الصف بعيداً عن "القواعد الإسلامية الانتخابية"، ولعل فى جمع التوكيلات مساحة كافية للتدريب. إن الخطر الآن أن نحسب أن الناس تحبنا لما تنطوى عليه صدورنا، إن الخطر الآن فى التخلى عن مطالب الجماهير، أو التخلى عنهم، وإن الأمل فى الالتحام مع الناس بتبنى قضاياهم والتعاون معهم للقضاء على مؤسسات الفساد التى لم تنتهِ بعد، لنعبر إلى حريات حقيقية لبناء دولة حقيقية وأمة حقيقية لنعود لعزتنا.