إن بلورة توقعات منطقية إزاء فرص تحقق أي حدث تاريخي ما يتطلب دوماً فحص البيئة التي يفترض أن ينضج فيها هذا الحدث، وهذا ما ينطبق تماماً على التوقعات بشأن إمكانية تحقيق المصالحة الوطنية الفلسطينية. فبين الفينة والأخرى يصعد مؤشر التفاؤل بشأن إمكانية تحقيق المصالحة، وتارة أخرى يتراجع هذا المؤشر لدرجة تثير الإحباط والقنوط، وفي كلتا الحالتين تتأثر التقييمات المتفائلة والمتشائمة بما يصدر من تصريحات عن ممثلي طرفي الانقسام، وكأن هذين الطرفين هما أصحاب التأثير الحاسم على مسار الأحداث، وهذا غير منطقي وغير معقول. وفي الوقت نفسه، فإن تحقيق المصالحة لا يتوقف على رغبة طرف إقليمي بعينه ارتأى - لدواع خاصة ورهانات محددة، وقد تكون آنية - ضرورة العمل على تحقيق المصالحة الفلسطينية. إن تحقيق المصالحة الفلسطينية، ومخرجاتها النهائية، يتوقف بشكل أساسي على نتاج موازين القوى الإقليمية والداخلية والدولية والداخلية، وهذا يعني أن إرادة هذا الطرف الداخلي أو ذاك لا تمثل بالضرورة معطى حاسمًا في تحقيق المصالحة. ربيع العرب والمصالحة إن نظرة متأنية ومتفحصة تدلل على أن نتاج موازين القوى الإقليمية والدولية والداخلية حتى الآن تدفع نحو استمرار حالة الانقسام الداخلي وما يترتب عليه من تواصل لتبعاته الكارثية. لقد كان من المبالغ فيه التقدير بأن التحولات الهائلة التي شهدها الوطن العربي مؤخراً، والتي عبرت عنها ثورات التحول الديمقراطي التي أفضت إلى انهيار أربعة أنظمة حكم، وتهدد بقاء أنظمة أخرى، ستوفر البيئة المواتية لإنهاء حالة الانقسام. صحيح أن هذه الثورات قد أنهت وجود أنظمة كانت معنية تماماً ببقاء حالة الانقسام، لاسيما نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك، لكن تأثير هذا التطور لم يكن كافياً لتحييد المعيقات الأخرى، لأن انهيار نظام مبارك لم ينتج بعد نظام حكم معني بتصفية حالة الانقسام بوصفها تؤثر سلباً على الأمن القومي المصري، بل إن هناك الكثير من المؤشرات تدلل على أن الذين يديرون شؤون مصر حالياً مازالوا ينطلقون في تعاطيهم مع الشأن الفلسطيني وفق ذات المعايير التي كان ينطلق منها نظام مبارك. من ناحية ثانية، فإن تقييمات طرفي الانقسام المتضاربة لنتاج الثورات العربية لا تسهم تحديداً في إقناعهما بإبداء المرونة المطلوبة لطي صفحة الصراع الداخلي. فرئيس السلطة محمود عباس يعي أنه على المدى الطويل، فإن الثورات العربية تخدم حركة حماس تحديداً، على اعتبار أن نتائج الانتخابات التي أجريت حتى الآن دللت على فوز الحركات الإسلامية المتعاطفة مع حماس. لكن عباس في المقابل يعتقد أنه سيمر وقت طويل قبل أن تتمكن أنظمة الحكم الجديدة في الوطن العربي من التقاط أنفاسها والانتهاء من معالجة شؤونها الخاصة والالتفات إلى الواقع الفلسطيني. وفي الوقت نفسه، فإن عباس يرى أن ما يحدث في سورية تحديداً، وما قد يتبعه من توتر مع إيران، التي تقدم الدعم لحكومة غزة، يقلص هامش المناورة أمام حركة حماس، وهو بالتالي يرى أن بإمكانه دفع ضريبة قليلة نسبياً في أي اتفاق مصالحة مقارنة مع حركة حماس. وبغض النظر عن مدى صواب تحليل عباس، فإنه يفسر تعاطيه السهل الممتنع في مقاربة قضايا الانقسام الرئيسة. ومما يزيد من تشبث عباس بموقفه هو وقوف أنظمة عربية محددة ذات تأثير في الشأن الفلسطيني إلى جانبه، بل وتشجعه على عدم إبداء المرونة المطلوبة لإنهاء حالة الانقسام، وتحذره من مغبة قطع الجسور مع إسرائيل والولايات المتحدة. الفيتو الإسرائيلي هناك مصلحة واضحة لإسرائيل في تواصل الانقسام، فهو يمنحها هامش مناورة كبير في مواجهة كل من عباس وحماس. ففي مواجهة عباس، الذي يتشبث بخيار المفاوضات وينبذ المقاومة، تقول إسرائيل أنها غير مستعدة للتعاطي معه بجدية في أي تسوية سياسية، على اعتبار أن عباس لا يمثل كل الفلسطينيين، وبالتالي فإن التوصل معه لاتفاق يمثل مخاطرة كبيرة تنطوي على استهتار بمصالح إسرائيل الاستراتيجية. وقد عبر عن هذا الموقف معظم المسئولين الصهاينة، لاسيما وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان. وفي مواجهة حماس، التي تصنف إسرائيلياً وأوروبياً وأمريكياً ، على أنها منظمة إرهابية، تصر إسرائيل على استخدام القوة العارية. من هنا، فإن الانقسام يمنح إسرائيل التحلل من أي التزام حقيقي تفرضه التسوية السياسية للصراع، كما أنه يمنحها هامش مناورة كبير في العمل العسكري ضد قطاع غزة. بالطبع هناك أدوات ترى إسرائيل أنه يمكن استخدامها لمنع تحقيق المصالحة. فإسرائيل توظف العقوبات الاقتصادية، لاسيما التوقف عن تحويل عوائد الضرائب لخزانة حكومة رام الله، إلى جانب العقوبات الشخصية، المتمثلة في فرض قيود على حرية حركة قادة السلطة، وضمنهم عباس. كما أن إسرائيل بإمكانها إحباط تنفيذ أي اتفاق مصالحة على الأرض من خلال احتلالها المباشر للضفة الغربية، فعلى سبيل المثال، ليس بالإمكان تنظيم انتخابات محلية وتشريعية في الضفة الغربية دون موافقة إسرائيل، التي يقتحم جيشها مدن وبلدات وقرى ومخيمات الضفة الغربية بشكل يومي. في الوقت نفسه، فإن القوى الدولية، لاسيما اللجنة الرباعية مازالت تتشبث بشروطها المتعلقة بأية حكومة يمكن أن تشارك فيها حركة حماس، وعلى رأس هذه الشروط: الاعتراف بإسرائيل، ونبذ المقاومة بوصفها إرهاباً، والالتزام بالاتفاقات الموقعة بين إسرائيل والسلطة. ومن الواضح أن عدم التزام أية حكومة بهذه الشروط يعني توقف المساعدات التي تقدمها الدول الأوروبية لحكومة رام الله، وهذا أمر ذو تأثير كبير في ظل عدم وجود بديل دعم عربي. يتضح مما تقدم أن تحقيق المصالحة لا يتوقف على إرادة طرفي الانقسام فقط، وإن كان هناك من الأطراف الداخلية من يرى أن تحقيق مصالحه الخاصة مرتبط بتواصل حالة الانقسام. من هنا، وللأسف الشديد، فإنه يبدو أن يكون الفلسطينيون مطالبين بالانتظار حتى تتغير الظروف الإقليمية بشكل يسمح بتحقيق المصالحة. المصدر: الإسلام اليوم