فى كل مرة يذكر أمر الفساد أو يسأل فى شأنه مسئول مصر ، وعلى رأسهم السيد حسنى مبارك ، يكون الرد جاهز أن الفساد ظاهرة تعرفها كل المجتمعات ، وأن النظام فى مصر لا يتستر على أى جريمة فساد ، وأن العدالة مستعدة لتطبيق معاييرها على من يثبت ضلوعه فى هذا النوع من الجرائم . وصحيح أن الفساد ظارهة ذات طبيعة عامة ، تعرفها المجتمعات كافة ، حتى الأكثر شفافية والأقل تسترا ً على هذا النوع من الجرائم ، لكن الأصح ، وهذا ما لا يذكره السادة المسئولون ، أن الفساد لا يصل أبدا ً ، فى أى دولة من هذه الدول ، تحترم نفسها وتمتلك حدا ً أدنى من القيم والمبادئ ، إلى الحد الساحق الماحق ، الذى اخترم كل المستويات واخترق كافة الأوساط ، كما هو حادث لدينا ، والأصح أيضا ً أن فى كل المجتمعات ، ينظر إلى الفاسد والمفسد باعتبارهما مجرمين يستحقان النبذ والعقاب ، وأن " ثقافة الفساد " لم تتطور فى بلد من البلدان – مثلما حدث عندنا – إلى الحد الذى أصبح معه الفاسد ينظر إليه باعتباره " رجل شاطر " " وذكى " ، وتصبح فيه عملية الإفساد " شطارة " و " فهلوة " و " نصاحة " . . ألخ ، ويُعاير فيه الإنسان الشريف الذى يوصف ب " الغباء " و " التخلف " ، ويعامل باعتباره ديناصورا ً منقرضا ً ، أو " دقة قديمة " على " قد حاله " ! . وصحيح أن النظام فى مصر ، من حين لآخر ، وذرا ً للرماد فى العيون يقدم لنا كبش فداء من قيادات الصف الثانى على الأغلب ، لامتصاص نقمة الناس ، وتبريد نيران غضبهم على ما يقرأونه ويعاينونه من وقائع يومية ، تكاد تكتسى صفة العمومية ، تشير إلى عمليات النهب المنظمة للثروة الوطنية ، وضياع التخوم بين " المال العام " و " الجيب الخاص " ، ولعل آخر هذه المحاولات الرسمية للإيحاء بأن عين النظام لا تغفل عن الفاسدين ( !! ) هو القضية الخاصة بالخسائر الفادحة لقطاع الإنتاج الإعلامى والإعلانى فى التليفزيون ، والتى تم بموجبها إلقاء القبض على عبد الرحمن حافظ وإيهاب طلعت على النحو الذى نقرأه ونتابع أخباره ، فالحقيقةأن كل هذه المحاولات لا قيمة لها ولا مردود ، وأغلب الظن أن جانبا ً منها يعود إلى عمليات تصفية الحساب بين الخصوم والمتنافسين والغرماء ، على اقتسام جانب من الكعكة التى بلا صاحب ولا رقيب ، وكلهم – دون استثناء – من أبناء المسئولين والمحاسيب والصفوة الحاكمة ، التى اختطفت البلاد – فى غفلة – وتتصارع على الفوز بالجانب الأكبر من الغنيمة ! . لقد حفل هذا الأسبوع ، على سبيل المثال ، بالعديد من الأخبار تداولتها الصحف عن فساد المحليات وإلقاء القبض على عدد من رؤسائها وكبار مسئوليها بتهمة الرشوة ، وفساد البنوك والتحقيق مع عدد كبير من مسئوليها وكبار المتعاملين بها بتهمة تسهيل الإستيلاء على المال العام ، مثل مجدى يعقوب ، صاحب محلات " بغداد " ، الذى " اقتنص " 1700 مليون جنيه بلا ضمانات " ولا دياولو " ، وفساد الشركات مثل جريمة أسامة عبد الوهاب ، رئيس " الشركة القابضة للأعمال الهندسية " ، التى بشرتنا الصحف أن أجهزة الأمن استطاعت تحديد البنوك التى أودع بها 1300 مليون دولار ، فقط لا غير ، ولم تتمكن من الاستدلال على مواقع باقى الأموال المنهوبة بواسطته والمهربة إلى الخارج ( ! ) . وبدون جهد يذكر سنكتشف أن المليارات تلو المليارات من الجنيهات والدولارات ، تنهب " عينى عينك " ، وتحت مسمع ومرأى من الجميع ، ولا ُتكتشف إلا ّ بعد فوات الأوان ، وبعد أن يكون من رابع المستحيلات إمكانية استعادتها ، وربما بعد أن يكون المجرم قد فلت بغنيمته و " راح . . راح . . راح " على رأى الأغنية المعروفة إلى حيث يستطيع أن يعيش فى رغد من العيش والرفاهية ، تاركا ً للشعب المطحون ، وللشباب العاطل عن العمل ، وللملايين من الجائعين ، والذين يحيون " تحت حد الفقر " الحسرة والندم ! ؟ وآخر وقائع الفساد الكبير التى تخصنا ، جاءتنا هذه المرة من " وراء البحار " حيث فجرت فرنسا فضيحة جديدة أثارتها اكتشاف جهات التحقيق ، وهى تتعقب وقائع عمليات فساد فى شركة الدفاع الفرنسية ، امتدت إلى التحقيق مع شركة Thahes se الكورية الجنوبية ، أن الشركات التى أمدت مشروع بناء مترو الأنفاق فى مصر ، قد وردت إليها معدات ضخمة وأجهزة عديدة فاسدة ، وعربات مخالفة للمواصفات ، وتجهيزات غير مطابقة للشروط الفنية والهندسية ، مقابل عمولات بالملايين لمسئولين مصريين ، لم تحددهم بالاسم لكنها – بالقطع – تعرفهم وتتحفظ لأسباب التحقيق على إعلانها ! . وفى هذا السياق أذكر أن الدكتور إسماعيل صبرى عبد الله ، وهو وزير تخطيط ماركسى سابق ، قد كتب – فى جريدة العربى – منذ نحو ثلاث سنوات ، يقول أنه يملك الدليل على أن الدكتور سليمان متولى ، وزير الاتصالات السابق ، والذى ظل فى كرسيه لمدة طويلة ، قد تلقى على سبيل العمولة ما قيمته 16 مليار دولار وضعت فى حساباته ، ولم يكذب الدكتور متولى هذا الاتهام الخطير رغم مرور وقت طويل على نشر هذا الاتهام ، وعلى مقال آخر ، كتبته تعليقاً عليه ، تحت عنوان " حاكموه ( أى سليمان متولى ) ، أو حاكمونا ! " . * * * * * والأخطر مما تقدم ، وهى الرسالة الواضحة التى تصلنا من هذه الحالة ، أنه برغم تضخم جهاز الأمن تضخماً سرطانياً ، وبرغم كل ما يمتلكه من قدرات ترصد " دبة النملة " على المعارضين ، وتنتقم منهم انتقام الحاقد المقتدر [ والحكم الأخير على أيمن نور أبغ دليل على ذلك ! ] ، فإن أعين هذا الجهاز تعمى عن المسئولين عن هذه الجرائم ، وتكتفى من حين لآخر بتسليتنا بالتلهى ببعض صغار كبار المسئولين ، أو كبار صغارهم ( لا فرق ! ) ، حتى ننسى ونبتلع الُطعم ! . * * * * * يا سادة : الشعب أذكى مما تظنون وهو يعرف جيدا ً أن الفساد لم يعد ظاهرة محدودة ، وإنما تغلغل عميقاً فى جسد النظام . لقد أصبح فسادا ً بنيويا ً ، وجزءا ً من التكوين العضوى للنظام ، التهم الأخضر واليابس ، ولم يبق على شئ !. والناس ، الذين تودون الضحك عليهم بلعبة كبش الفداء " إياها " ، يعرفون جيدا ً ، وحسب مثلهم الشعبى أن " السمكة تفسد من رأسها " . أى أن الفساد " جاى من فوج " ، من " فوج جوى " على حد تعبير مواطن مصرى صعيدى بسيط ، وهو يشرح نظريته !! . ولأن الفساد أصبح فسادا ً بنيويا ً ، وتجاوز " فساد الركب " الذى أشار إليه زكريا عزمى منذ سنوات حتى غطى قمة الرأس ، فلا يمكن المراهنة على رموزه فى إخراجنا من مستنقعه ، ولا يمكن أن يحل حلا ً جزيئا ً يبقى على قواعده وقوانينه ، والبيئة التى أفرزته ، مقابل الإطاحة ببعض الرؤوس التى " أينعت وحان قطافها " ، للضحك على الذقون ، والإيحاء بأن محاربة الفساد قائمة على قدم وساق !! . وحين تفسد السمكة من رأسها ، فلا حل إلا بإلقائها إلى صندوق القمامة ، والبحث عن طعام نظيف ! . [email protected]