(1) عندما تأملت سيرة الجنرال ديجول، وهو – بلا شك – الشخصية الأشهر والأهم في التاريخ الفرنسي منذ نابليون، وهو الذي قاد فرنسا عسكريًا وسياسيًا بعد نكبتها واحتلالها في بداية الحرب العالمية الثانية عام 1940، وتعاون مع الحلفاء وقاد القوات الفرنسية في المستعمرات، وحافظ على كرامة فرنسا بكل اعتداد بالشخصية، وأصر أن تكون قواته هي أول من تدخل باريس محررة لها، حتى أثار حفيظة روزفلت وتشرشل لدرجة أنهم اعتبروه مجنونًا وكادوا يبعدونه لكنهم رضخوا في النهاية وكان له ما أراد وتحررت باريس بقوات طليعة فرنسية عام 1944، ثم استدعته فرنسا لينقذها مرة أخرى، هذه المرة من نكبة سياسية وليست عسكرية، فلبى النداء وأسس الجمهورية الخامسة عام 1958، وهي القائمة إلى اليوم، ووضع سياسات الاستقلال السياسي والعسكري عن الولاياتالمتحدة، وهو ما يجعل لفرنسا الوضع الأكثر تميزًا في أوروبا إلى الآن.
(2) وفضلًا على الدور التاريخ العظيم لديجول في إنقاذ فرنسا مرتين، وأدواره السياسية الكبيرة في دعم استقلالها السياسي والعسكري وحل أزمة الجزائر، فإن ديجول كان له تاريخ عسكري مشرف، فقد كان قبل الحرب العالمية من أوائل من أشار لدور المدرعات في الهجوم الصاعق كوحدات، وليس في استعمالها مجرد مساندة للمشاة، وأصدر كتبًا هامة في ذلك سبق بها الجنرالات الألمان، ثم كان أثناء الحرب أحد الذي صمدوا في المواجهات مع الألمان إلى أن فرضت عليه الهزيمة العامة التراجع، ثم كان له الدور الذي ذكرناه في تحرير باريسوفرنسا عام 1944.
(3) ديجول، على كل هذا التاريخ العظيم والمشرف، لا يحمل رتبة (مارشال) !، لأن فرنسا رأت أن إسهاماته العسكرية لا ترقى لتلك الرتبة السامية الموجودة في الجيش الفرنسي، والتي حصل عليها مارشالات اسهموا في معارك عظمى في الحرب العالمية الأولى مثل المارشال بيتان والمارشال فوش، ورغم أن بيتان أدين للتعاون مع الألمان وحكم عليه بعد الحرب العالمية الثانية بالإعدام وخفف إلى السجن المؤبد بينما أصبح ديجول بطل فرنسا، إلا أن ديجول ظل جنرالًا وظل بيتان مارشالًا، احترامًا للعسكرية ولموجبات تلك الرتبة واستحقاقاتها.
(4) أطلقت فرنسا اسم ديجول على أشهر مطاراتها، واطلقت اسمه على اشهر ميادين باريس واكبر محطات المترو، بل وسميت مدنًا فرنسية باسمه، لكنها لم تعطه رتبة المارشالية رغم كل عظمته السياسية والعسكرية، لأنهم يحترمون انفسهم، ويحترمون العسكرية، وتحترمون الرتب ومقتضياتها.
(5) كان هذا واحد من أعظم شخصيات الحرب العالمية الثانية ومن ابرز زعمائها، احترم نفسه وبلاده فجلب النصر لها وحاز تقدير العالم كله إلى اليوم...... فتعالوا نرى الصورة على الجانب العربي..خاصة حاليًا !.
(6) أول من حمل رتبة مشير في الجيش المصري هو المشير عبد الحكيم عامر !!، كان ليلة 23 يوليو 1952 برتبة (صاغ) [رائد]، فرقاه رفاقه لاحقًا من رتبة رائد لرتبة لواء عام 1953 !!، ثم لرتبة فريق عام 1957 (مكافأة على فشله واهتزازه أثناء حرب 1956 بشهادة جميع المحيطين به) !!، ثم لرتبة مشير عام 1958 (وعمره 39 سنة) !!، وطبعًا كلنا يعلم النتائج التي ترتبت على قيادة المشير للأمور في سوريا وفي اليمن وعلى ارض سيناء عام 1967 !!. في كتابه (زيارة جديدة للتاريخ) يقول هيكل في صفحة 180 أن مونتجومري وصف المشير عبد الحكيم عامر – قبل النكسة بشهر- بأنه أصبح ماريشالًا سياسيًا، ثم قال لهيكل بالنص " ليست هناك حاجة على الإطلاق ل “ماريشال سياسي”، الماريشالية لا تكون إلا بقيادة الجيوش في الميدان، وليس من أي سبب آخر ". ولم يذكر الأستاذ هيكل أن العيب هنا ليس على عامر، ولكن على من رقاه، فإنه لم يرقي نفسه، هناك من استهان بالعسكرية المصرية واستهزأ بالرتب واصدر القرار تلو القرار بترقيته على هذا النحو، هذا الذي تقع المسؤولية عليه قبل أن تقع على عامر !!.
(7) وهكذا ففي الوقت الذي لم تر فيه فرنسا أن ديجول بطلها في العصر الحديث يستحق عسكريًا رتبة المارشال فإن العالم العربي بدأ هذه الرتبة بالصاغ عبد الحكيم عامر !!، ثم أعطاها لنفسه العقيد عبد الله السلال قائد ثورة اليمن فأصبح المشير السلال !!، ثم أعطاها لنفسه الرئيس العراقي (عبد السلام عارف) !!، حتى وصلت إلى العقيد (حفتر) يعطيها لنفسه مكافأة على الاستيلاء على ميناء نفطي، بينما يخلو تاريخه العسكري إلا من هزيمة سابقة في تشاد وهزيمة حالية في بنغازي !.
(8) ويبقى السؤال، هل نجح واحد – ولو واحد فقط – من الذين حصلوا على هذه الرتبة بعيدًا عن ميادين القتال في أن يحظى بالتقدير الواجب لصاحب تلك الرتبة، أبدًا، ولا مرة، بل كانت لعنة على من حملها دون وجه حق، وكلنا يعرف كيف انتهى المشير عامر، ومازال اسمه إلى الآن قرين الهزيمة والفشل، ولا أحد يتذكر أن السلال وعبد السلام عارف وصدام حسين حملوا يومًا رتبة مشير..... وما أظن اللاحقين إلا على خطى السابقين.
(9) يظل ديجول بطل فرنسا وهو جنرال وليس مارشالًا، ويظل سعد الدين الشاذلي بطل حرب أكتوبر وهو جنرال وليس مارشالًا – وكان يستحقها- وسيظل الذين يحملوها دون وجه حق صغارًا مهما ارهقوا أكتافهم بأثقال من النسور والسيوف، فهي كما قال الشاعر الأندلسي:
ألقاب مملكة في غير موضعها *** كالهر يحكي انتفاخًا صولة الأسد
م/يحيى حسن عمر عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.