يفرض الواجب نفسه علي كل من تحدث في أي خط فكري أو حياتي أو علمي أن يحيط بآليات ومقاصد ذلك الخط وبخاصة إذا كان هذا الخط من الخطوط التي لم يعتد المتكلم الحديث فيها أو تلك التي تغلب عليها الصبغة الجماهيرية والتي يعبر عنها بلغة أهل الواجهة ( الخط السياسي ) ، كما يجب عليه في نفس الوقت الاحتفاظ بفكرته وثوابته الأصلية التي تنطلق من قناعاته ومعتقداته ، وحين لايتحلي بمثل تلك المهارة أو يفتقدها في حديثه بسبب ضغوط فكرية أو نفسية أو بسبب إغراءات أخرى فكلامه يكون أقرب إلي مسلك الحيات في التفلت أو إلي مسلك الحرباء في التلون ، وفي كل من الحالتين فهو قد أساء إلي الفكرة التي طرحها وإلي الخط الذي ينتمي إليه ، ونخلص من هذه التقدمة إلي أن من تحدث في السياسة من علماء الدين ينبغي أن يحيط بآلياتها ومزالقها وأن يسعى جاهداً للحفاظ علي ما يعلمه من دينه كما هو ، دون أن يتعرض الدين للتحريف علي يديه بسبب لغة السياسة أو الإغراءات أو التهديدات التي يكون مبعثها الإعلام غالباً ، فكم من عالم رأيناه يبدأ كلامه متحمساً لفكرة ثم ينتهي به الحديث متنكراً لتك الفكرة ، ونتساءل بعد ذلك : كيف نجح الجمهور بقيادة الإعلامي ليتحول حامل لواء الدين هكذا عن فكرته ؟ هذا أمر نخشى أن يكون وراءه العجب أو حب الظهور ، والأولي لمثل هذا المتحدث أن يكف لسانه عن الحديث حتى لا يفتن الناس في دينهم ويبوء وهو يدري بإثمه وإثم من تسبب في فتنتهم من عموم المسلمين ، ولقد كان الإمام أحمد رضي الله عنه يتوقف عن الفتوى لما هو أقل من ذلك يحث لاتكون فتواه تكأة لتعريض البعض للاستغلال أو ما يمكن أن نطلق عليه الابتزاز باسم الدين . والشيء نفسه نقوله لمن أراد أن ينفذ إلي الدين عبر تمرير فكر يرفضه الدين أساساً ، أو أن يخلق قبولاً شرعياً لأشخاص دل كلامهم ومسلكهم علي معاندة الدين والانتقاص من قيمه ، ومثل هذا قد لمحناه وسنراه كثيراً في الأيام المقبلة بعد تنامي دور التيارات الدينية في الحياة السياسية في مصر ، فيخرج علينا أنصار فكر قد استقر الفهم الأكاديمي والفهم الشعبي علي عدم قبولهم لدين الإسلام بإحدى الطرق - ملتوية كانت أم صريحة – ليقول لنا إن هؤلاء من أنصار الدين ولا يعارضونه في شيء ، ويذهب إلي أن العيب يكمن في فهمنا نحن المسلمين لأبعاد كلام هؤلاء الناس ومسالكهم ، وكأنما يريد لنا أن نرتدي نظارة الأبعاد الثلاثية لنري واقعاً لايمكن مشاهدته بالعين المجردة ، أو أن نتحلى بفهم خاص لندرك المعاني الجميلة المتخفية وراء الألفاظ القبيحة . حدثان مفترقان وإن تقاربا في وقت حدوثهما لكنهما يصبان في الخانة نفسها ويجمع بينهما رباط قوي وهو اتصالهما بالدين الإسلامي ، ليس باسمه ولكن بقيمه وتشريعاته وأخلاقه ، الأول هو تلك الثورة الإعلامية التي خاطبت فئة من أبناء شعبنا بغرض استثارتهم ضد مخطط الإسلاميين لفرض ظلامتهم وقسوتهم علي تلك الفئات الطيبة المسكينة التي تخشي علي نفسها من الثيران الهائجة التي حلت علي مصر بتسللها عبر صناديق الانتخاب ، كل ذلك لأن بعض الشباب أنشأ صفحة علي الفيس بوك تحمل اسم ( هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) والتي برغم كل ما أحدثته من ضجيج فعدد أعضائها محدود جداً ولا يقارن بأي موقع شبابي آخر ولا يمثل بنسبة في أي موقع فيه شبهة إباحية ، ومع هذا فقد تبني الإعلام عملية تهييج تلك الفئات وكأن المسلمين يحملون المولوتوف والقنابل الحارقة وماء النار لأمرين لا ثالث لهما : الأول هم الناس خارج المساجد في أوقات الصلاة ، أما الأمر الثاني فهو النساء غير المحجبات أو الحريصات علي عدم الفصل بين الرجال والنساء في وسائل النقل الجماعية ، واستدعي الكثيرون الفكرة السلبية التي تكونت لدي العامة عن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر السعودية ، وبالغ بعضهم في التبشير بالطريقة الإيرانية ( لم يحددوا لها اسما ) في فرض الزى علي النساء ، وتحدثوا أيضاً عن تجربة طالبان في أفغانستان في فرض اللحية علي الرجال ، وكل ذلك يهون إذا تذكرنا ماعهدناه من الخبل الإعلامي والشطط الذي ينتابهم أمام أي قيمة أو شخصية إسلامية ، ولكن الذي يحتاج إلي تفسير ويثير الدهشة هو موقف القيادات العلمية الإسلامية من هذا الحدث ، وكان أول تلك المواقف هو موقف فضيلة الأستاذ الدكتور وزير الأوقاف وهو علم من أعلام العالم الإسلامي وله منا كل التقدير والاحترام ، فلقد تتبعت حديث فضيلته في كل المواقع التي نشرته وأزعم أن النصوص المنقولة عن فضيلته في هذا الشأن تطابقت في مواقع عديدة مما يثبت صحة نقلها عن فضيلته ، فقد قال ( من يدعو إلي تغيير المنكر بالقوة في هذا العصر فهو شاذ فكرياً ) وفي تصريح لاحق قال عن من يفعل ذلك ( ليس عاقلاً ) . لست أدري ماهو الدافع أو المناسبة لأن يدلي فضيلته بمثل هذا التصريح ؟ ولماذا التعميم في قضية هي من أصول هذا الدين كما دل القرآن الكريم والسنة المطهرة علي ذلك ؟ نعم إن لغة العصر تنظر إلي ماينكره الإسلام نظرة تختلف عن نظرة الإسلام إليها ، فكثير من المنكرات في الإسلام ليست منكرات في عرف كثير من الأمم والشعوب والجماعات وبرعاية الأممالمتحدة ، وبالتالي فهم يختلفون معنا في النظرة وفي الحكم وبالتالي فلابد أن يوجد هناك اختلاف في الواقع ، ولكن مع ذلك فهم يجرمون أشياء ويطلبون من المجتمع محاربتها ولو باستخدام القوة سواء كانت نظامية أو شعبية ، وبالتأكيد فإن الذين أثاروا القضية لم يستحضروا إلا النماذج السابق الحديث عنها ، ثم أم يكن من الأولي بيان الحكم الشرعي وآليات التنفيذ وذكر الحالات والمواقف التي لابد من استخدام صورة من صور القوة فيها ؟ فمثلاً : حالة الأب مع أبنائه وهو يملك عليهم ولاية الإجبار ، فهل إذا استخدم صورة من صور التقويم بالقوة البدنية أو الفكرية أيكون هذا الأب شاذاً ؟ بينما القرآن والسنة علي خلاف هذا القول ؟ وفي بعض المواقف كتعرض أنثي لمحاولة الخطف أو الاغتصاب ولم يمكن دفع الجاني إلا بالقوة ؟ أو إذا شرع أحدهم في قتل أحد ولم يمكن دفعه إلا بالقوة أو حتى بالقتل أحياناً ؟ وإذا رأي أحد أحداً يسرق ماله أو مال غيره ولم يمكن دفع السارق إلا بالقوة ؟ هل يتنازل من كان في مثل هذا الموقف عن استخدام القوة ثم يقف يستجدي الجاني أو ينشد له أغنية ( ستدخل النار أيها الجاني ) ؟ . وجاء بيان مجمع البحوث الإسلامية برئاسة فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر وهو أعلي هيئة علمية إسلامية في العالم وجميع أعضائه من خيرة علماء العصر ، وبالتأكيد هم أهل الحل والعقد في كل ما يتصل بالإسلام وعلومه ، إلا أن البيان لم يتعرض إلا لجانب واحد وهو أن مسلك هؤلاء الشباب يعتبر اغتصاباً لسلطان الدولة ممثلة في الأزهر الشريف ، وقد كنا ننتظر الجانب المفتقد في البيان والذي يجعل الأمر متوازنا ومعبراً عن الصورة الإسلامية الصحيحة ، فقد كان واجباً التأكيد علي أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما هو فريضة إسلامية وبيان أن الفقه الإسلامي والواقع في الدولة المسلمة قد تحدثا عن آلية منظمة للقيام بواجب الأمر والنهي ، حيث كان المحتسب في الدولة الإسلامية جزءاً من نظام الدولة وسلطتها التنفيذية ، مع التسليم بأن بعض المواقف والحالات كالتي سبق ذكرها لن يتوقف التعامل معها علي المحتسب وجهازه بل لابد من دور شعبي واضح لمعاونة المحتسب في أداء وظيفته الشرعية ، وقد يري البعض أن استخدام هذه الآلية لم يعد مناسباً للعصر الحديث ولكنني أزعم أنه أشد مناسبة من أي وقت مضي ، فهاهي منظمات المجتمع المدني تقوم بأدوار في المجتمع بوسائل شتي وعملها مقبول ويلقي الحماية من الأطراف الداخلية والخارجية ، إما إن كان لدي البعض حساسية من استخدام اسم المحتسب فلا مانع من استخدام اسم آخر يتناسب مع العصر الحديث . الحدث الثاني فيه مفارقة عظيمة ، فقد تابعت حواراً علي الهواء بين اثنين أحدهما يمثل التيار الليبرالي والآخر يمثل التيار السلفي ، ودفعني ذلك اللقاء إلي تتبع كل ما كتبه ممثل التيار الليبرالي خلال الأشهر الماضية عن علاقة الدين بالدولة فوجدت أن جميع ما كتب ينصب علي تأكيد مبدأ عدم وجود تعارض بين المفهوم الليبرالي ( المصري ) والدين الإسلامي ، وأن الدين الإسلامي المأخوذ من القرآن والسنة ( وليس من أقوال تتعارض حسب قوله مع القرآن والسنة ) هو دين مدني بطبعه ، وفي تقديري أن من يتحدث بمثل هذا الأسلوب إما أنه في غاية الغرور ويريد أن ينصب نفسه راعياً وداعيا لتيار بينما هذا التيار يرفضه لأنه ينقض فكر هذا التيار من أساسه ، أو أنه في غاية الحمق لأنه يتحدث بلسان غيره وبلغة لا يتحدثون بها بل ولايقرونها ، أو الثالثة التي تحدثت عنها آنفاً وهي لغة الباحث عن جمال خلف القبح أو رضا خلف السخط أو قبول خلف الرفض . أما عن ادعائه بأن الليبرالية المصرية تؤمن بوجود الدين الإسلامي كمكون أساسي لشخصية أبناء هذا الوطن وأنه لا يري أي تعارض بين كونه مسلماً وليبرالياً في نفس الوقت ، فهذا ما تقول عكسه تماماً الدراسات الأكاديمية الموثقة وما يرفضه جيش جرار من الليبراليين المصريين ممثلين في أشخاص كثر وأحزاب عديدة وقنوات إعلامية معروفة ، وإن كان المتحدث نفسه قد أكثر من التحدي مطالباً الضيف الثاني بأن يذكر له مثالاً واحداً من المطالبين بإقصاء الدين وتحكيم الحرية الفردية المطلقة في كل المجالات . والمدهش أو المضحك أنه حينما ذكر له الضيف المقابل اسم شخصيتين من الشخصيات المشهورة وذكر بعض الآراء التي تبناها كل منهما كان تعليقه علي كلام الضيف بأن إحدى الشخصيتين شخصية أدبية ولابد أن نسلم بمنطق الإبداع في كتاباته وألا نحمل المعني علي ما يظهر من كلامه ( نلبس نظارة البعد الثالث ) وانبري في تأثر عجيب يشرح لنا المضمون الراقي الذي تحمله كتابات هذا الأديب العظيم ، ولم يتوقف حتى حينما ذكر له مقدم البرنامج ما يتردد في الأوساط الأدبية من أن شهرة هذا الأديب ليس بقيمته الأدبية الذاتية ولكن تلميع هذا الأديب جري بسبب توجهه الليبرالي وأن الآلة الإعلامية الليبرالية هي التي قامت بالدور الكبير في تقديمه وتلميعه وإقناع العقل المصري به . وحينما تحدث عن الشخصية الثانية التي ذكرها الضيف الآخر وذكر أنه يتبنى آراءً مخالفةً للشريعة الإسلامية تحت إيحاء الليبرالية ودعوى عدم التناقض مع النفس بشأن المنهج الذي يؤمن به ، قال المتحدث عن تلك الشخصية : إنه رجل أكاديمي وليس سياسياً مع أن التصريح الذي ذكر عن تلك الشخصية والذي كان محل استدلال كان حكماً شرعياً بكل ما تحمله المعني ولا مجال فيه لسياسة بل هو تصادم مع صريح القرآن الكريم والسنة المطهرة ، وفي الحقيقة انتابتني نوبة من الضحك وأنا استمع لهذا التبرير وتساءلت في نفسي : هل يقبل الأستاذ في العلوم السياسية أن يقول عنه المتحدث إنه لا يفهم في السياسة ؟ . * داعية إسلامي