تلاحظ الطاهية الخبيرة أن القِدْرَ الذى يُطْهى فيه الطعام عندما يبدأ فى الغليان تتصاعد على سطحه فُقّاعات صغيرة تحمل معها شوائب داكنة اللون تنتشر على سطحه.. فتشرع فى التخلّص منها لأنها عناصر غريبة عالقة تفسد الطعام إذا بقيت فيه وتكسبه رائحة كريهة.. فإذا أُهملت تراكمت على غطاء القِدْرٍ وعلى حوافّه فتلتصق وتتكلّس وتتحول بالحرارة الشديدة إلى مادة سوداء يصعب تنظيف القدر منها.. وهكذا تفعل الثورات فى المجتمعات الإنسانية: إنها تحتدم بالغضب والرغبة العارمة فى التغيير.. وتستأصل عناصر الفساد من جذورها.. فإذا تمكّنت من هذا طَفَتْ هذه العناصر على سطح المجتمع لتشكل طبقة معتمة من نفاياته فوق مجرى الثورة المتدفّقة.. تمامًا كالزبد الذى يطفو على سطح السيل الجارف.. مع الفارق.. وهو أنه فى السيل الجارف تتولى قوانين الطبيعة التى أودعها الله فى الكون بالتخلص من الزبد والنفايات الضارة فلا يمكث فى الأرض إلا ما ينفع الناس.. ولذلك أقول: إن الثورة فى المجتمعات الإنسانية تكون أكثر شبها بقِدْرِ الطهي.. يحتاج إلى رعاية بشرية مدرّبة لتطهيره أولا بأول مما يطفو على سطحه من نفايات.. تعكر صفوه وتحجب الرؤية الصحيحة لما يتفاعل داخله من صراعات بين قوى الخير وعناصر الشر المُعِيقة.. فإذا لم تتوفّر الرعاية البشرية المخلصة الواعية طال الصراع وزادت طبقة النفايات كثافة واضطربت جهود المخلصين للثورة الراغبين فى التغيير والإصلاح.. وارتفعت أصوات الأوباش والحثالة.. ولقد ابْتُليت مصر ابتلاء مزدوجًا فلم يتوفّر لها بعد الثورة حكومة مخلصة واعية ولم تستمر الثورة الحقيقية إلا قليلا حتى تمزقت قياداتها وضعف دفعها وقفزت عليها عناصر دخيلة متخفّية فى عباءة الثورة ولكنها تسلك ضد أهدافها إما عن غفلة وإما عن قصد وعَمْد.. وكلاهما يعمل لصالح الثورة المضادة.. لا أريد أن أتمادى فى سرد العوامل السلبية التى تعمل على تمكين الثورة المضادة لحرمان هذا الشعب من منجزات ثورته العظيمة.. فهناك مُنْجزات إيجابية راسخة كالطود.. يستحيل إنكارها أو التقليل من شأنها.. وتتمثّل فى برلمان الأمة الذى يدافع عنه الشعب بكل ما أوتى من عنفوان وقوة.. ولن تفلح مؤامرات أعداء الثورة فى تدميره.. والعودة مرة أخرى إلى عهد الاستبداد والفساد وتزوير الانتخابات.. وأرى أن العملية الديمقراطية سوف تجرى إلى نهايتها المحتومة.. رغم كل ما يحاك ضدّها من مؤامرات.. ورغم عمليات القتل والتخريب التى تسارعت حوادثها واحتدت إيقاعاتها وشملت العديد من مجالات الحياة فى مصر.. لسوف يتم وضع دستور للبلاد وسيتم انتخاب رئيس لمصر وستقوم حكومة وطنية مدنية لتتسلم السلطة من المجلس العسكرى.. وهنالك فقط ستبدأ العملية الحقيقية لإصلاح مصر وتخليصها من الفساد السياسى والمالى والاقتصادى والاجتماعى والأمنى.. وهنالك فقط ستبدأ محاكمة حقيقية لرموز النظام البائد الذين تسببوا فى تخريب مصر ونهب ثرواتها وبيعها للأجنبى.. وقتلوا الأبرياء من أبناء هذا الشعب الثائر.. محاكمة حقيقية لكل من هم الآن رهن السجون ويحضرون محاكمات شكلية هزلية.. وكل الذين لم تشملهم بعدُ قوائم الاتهام ولم يُستدْعوْا بعد للمحاكمة على جرائمهم.. ثقتى ويقينى بأن سيناريو التخريب المتصاعد لن يفلح فى تدمير منجزات الشعب الثائر، قد يفلح فى إطالة فترة الصراع.. أوتعويق عملية الإصلاح.. وقد يؤدّى إلى مزيد من الخسائر فى الأرواح والأشياء.. ولكن قوى الإصلاح والإنقاذ نافذة إلى غاياتها بقوة وإصرار لا يمكن التصدّى لها.. هذا اليقين وتلك الثقة لم يأْتيا من فراغ، وإنما من إيمان بأن كتلة هذا الشعب الأساسية قد كسرت حاجز الخوف من كل ما هو دون الله.. وانفلت عقالها من ربقة العبودية لغير الله إلى الأبد.. وفى هذا سر قوّتها.. وفى أحضانها تحيا الثورة الحقيقية.. وتبقى لى بعض ملاحظات أشير إليها فيما يلى: أولا: لا ينبغى أن يُعوّل أحد على حكومة أو مجلس أثبتت التجارب أنهما أبعد ما يكونان عن آمال الشعب وطموحاته.. ويغلب عليهم جميعًا أنهم يفكرون بعقلية ما قبل الثورة.. ويسلكون وكأنهم سلطة فى دولة مستقرّة.. مع أنهم لا يملكون الحد الأدنى من مقومات الدولة.. ودليل فشلهم الأكبر أنهم خلال عام من انطلاق الثورة لم يستطيعوا إحداث تغيير جذرى فى وزارة الداخلية.. بحيث تتحول إلى أداة حقيقية لإعادة الأمن، وإقامة القانون.. ولا تستطيع اليوم حكومة جديدة منتخبة أن تعتمد على هذه الوزارة بأوضاعها وبتركيبتها الحالية.. لماذا..؟! لأن جميع وزراء الداخلية منذ حكومة الجنرال أحمد شفيق إلى اليوم لم يتخذ أحدٌ منهم الإجراءات الصحيحة لتطهير هذه الوزارة من عناصر الفساد ولا من العقلية القمعية التى كانت سائدة متحكّمة فى عصر مبارك و العادلى.. إنهم جميعًا لا يملكون الجرأة الثورية ولا الخطط المدروسة.. ولا التصوّر الصحيح لما يجب عمله لإعادة تنظيم هذا الجهاز المتعفّن.. الذى كان أداة مبارك فى حكم مصر وإذلال شعبها.. وقد كتبت كلامًا كثيرًا فى طريقة إصلاح هذه الوزارة منذ اندلاع الثورة.. ولا أعود إليه فقد انتهت فاعليته مع مرور الزمن.. واستهداف مبنى هذه الوزارة بالذات له دلالات لا تخطئها العين، فقد استعصت على الإصلاح ولم تشعر الجماهير بأى تغيير فيها.. فزاد غضبهم عليها.. واحتقنت مشاعرهم ضدّها.. وضد كل ما تمثّله.. وأسأل هل الحل يكمن فى تسليم السلطة الآن من العسكرى إلى سلطة مدنية مؤلّفة بأى طريقة خارج إطار البرلمان.. وبعيدًا عن العملية الديمقراطية.. كما يفعل البعض اليوم، إذ يدفع بمجموعات من المرتزقة إلى الشارع للتظاهر والاعتصام.. لفرض أفكاره بالقوة على الشعب..؟ أقول لا.. وألف لا...! فالذين يدعون إلى هذا لا يحترمون الديمقراطية أصلا.. ولا يسعون إلا لمزيد من الفوضى والخلاف وتصعيد الصراع. السلطة بتركيبتها الراهنة المتمثلة فى مجلسها وجنزورها ليست إلا سلطة مؤقتة لن تستمر أكثر من بضعة أشهر لتسليم عهدتها إلى رئيس دولة منتخب وحكومة منتخبة.. والصبر عليها أسلم وأهون من تسليم السلطة إلى حكومة غامضة المعالم.. لا سند شرعى لها ولا قوة شعبية حقيقية تساندها.. وإنما يُراد فرضها قهرًا.. لغايات وأهداف غامضة لا يمكن التنبؤ بها ولا يستطيع البرلمان كبح جماحها... وكثرة الحديث عنها والإصرار عليها يثير الشكوك فى دوافع أصحابها.. ثانيًا: تسارع أحداث العنف المخطّطة وكثرة عمليات القتل والسطو المسلح والحرائق.. والهجوم على مبنى وزارة الداخلية وخطف الأشخاص للمطالبة بفدية مالية.. كلها ظواهر دخيلة على الثورة وعلى طبيعة هذا الشعب الأصيلة.. ولكنها مفهومة فى مجتمع لم تتبلور فيه عملية إصلاح حقيقية.. ولم تظهر فيه سلطة شرعية من اختيار الشعب.. ترعى شئونه وتخلّصه أولا بأول من عناصر الفساد والأمراض الطافية على سطحه.. وتقف السلطة الحالية فيه لا موقف المتفرّج فحسب بل موقف المتهم الذى لا يمكن الوثوق فى براءته.. لأنها لم تفعل ما كان ينبغى أن تفعله فى الوقت الذى أراد الشعب فيه أن تفعله..! وهذا من شأنه أن يزيد من أعباء التركة المثقلة بالفساد من عهد مبارك.. فالحكومة القادمة سوف تفتقد إلى أداة استخبارية أمنية وعسكرية مخلصة وفعّالة تضع يدها على الحقائق والتدابير والمؤامرات التى تدور فى أرض هذا الوطن ومن حوله.. للتمكن من التصدى لها وتفريغها قبل أن تتفجّر.. وفى حاجة إلى قوّة أمنية تمكّنها من تنفيذ القانون والقبض على المجرمين مهما كانت صفتهم ومراكزهم وسلطاتهم... فهل يملك البرلمان المنتخب.. والحكومة المحتمل تشكيلها تصورات دقيقة لاحتياجاتها فى هذين المجالين: مجال الأمن ومجال المعلومات...؟ ثالثًا: الأمر يحتاج إلى عقول مبتكرة.. وهمم نافذة.. ومعرفة علمية دقيقة بالأشخاص والعناصر التى يمكن توظيفها لتغيير وإصلاح التركيبات المتكلّسة فى هذين المجالين.. لقد عجزت الشرطة والاستخبارات عن وقف المجزرة، التى وقعت فى بور سعيد.. وتشير أصابع الاتهام إلى رجال فى السلطة هناك شاركوا إما بالتواطؤ وإما بالتدبير أو بهما معًا والله أعلم..! والأمر يحتاج إلى تحقيق ومساءلة فورية.. إذ يبدو لى أن المسألة أكبر من إثارة الشغب والفوضى، وإنما يرتقى إلى جريمة هدم الدولة وتدمير مؤسساتها.. لا أستبعد هذا الآن فهناك قوى فى داخل السلطة تسعى لانهيار الدولة فى مصر.. لماذا..؟! ولصالح من...؟! ربما احتجت إلى مقال آخر للإجابة عن هذا السؤال... الأهم من كل شىء الآن هو أن يتنبه أصحاب المسئولية فى المستقبل القريب.. إلى ما ينتظرهم من مسئوليات جسام وأن يستعدوا لها بمشروعات وحلول نافذة لأن الشعب لم يعد لديه صبر أكثر على احتمال هذه الكوارث ولا احتمال الميوعة والمهازل التى تتكشف عنها السلطة الحالية يومًا بعد يوم... لقد ركزت على موضوع الأمن والمعلومات الاستخبارية لأنهما عصب الاستقرار السياسى.. والتفريط فيهما أو الاستهانة بهما يعرّض المكتسبات السياسية والديمقراطية للانهيار.. ومن ثَمّ كانت أولوياتهما على ما سواهما.. ولكنى لا أغفل أبدا أهمية العوامل الاقتصادية والاجتماعية.. ولا أغفل بصفة خاصة عن أهمية العوامل الدعوية والفكرية التى تضىء الطريق وتستنهض الهمم وترفع الروح المعنوية وتقوّى عزائم العاملين فى مجالات البناء والإصلاح على اختلافها.. لذلك أدعو قوى الإصلاح والبناء أن تستيقظ وتشرع فى وضع خطط وآليات تحقيق أهداف الثورة وطموحات هذا الشعب صاحب الثورة وصاحب التضحيات.. وأدعو نوّاب الشعب ألا يتخذوا من مجلسهم مَكْلَمَة.. فقد مضى زمن الكلام.. أقول لهم: اجعلوا من مجلسكم حلقات دراسة ومناقشة واستدعوا كل خبراء وعباقرة هذه الأمة وما أكثرهم.. ليطرحوا مشروعاتهم الإصلاحية للنهوض بهذه الأمة من المصير المظلم الذى يخططه لها أعداؤها فى الداخل والخارج على السواء... والله ولى التوفيق.... [email protected]