«تحيا مصر.. يسقط إيدن.. يسقط موليه» كانت آخر كلمات نطق بها الطفل ذو ال15عاما، قبل أن تنطلق رصاصة صلبة قوية من مسدس ضابط فرنسى باتجاه قلبه مباشرة، لتنتهى حياته بسرعة لا تماثلها سوى سرعة الحجر الذى انطلق من يده الصغيرة قبل لحظات باتجاه سيارة المعتدى. بدأت هتافات الأطفال فى مظاهرة استقبال طلائع قوات الطوارئ الدولية التى وصلت بورسعيد فى 21 نوفمبر 1956 لتسلم المدينة من القوات البريطانية والفرنسية عقب العدوان الثلاثى، عند محطة السكة الحديدية وعلى امتداد شارع محمد على وحتى وصولها إلى المعسكر الخاص الذى أقيم لها فى ميدان المحافظة، إلا أن بعض الأطفال واصلوا الهتاف فى طريق عودتهم وكان على رأسهم حسن سليمان حمود وإبراهيم عبدالحميد البحراوى، عندها غطت أصواتهم «يسقط إيدن يسقط موليه» على صوت نداء حظر التجول الذى كان يأمرهم بالتفرق قائلاً: «يا أهالى بورسعيد ممنوع أن يمشى أحد بعد الساعة 5 مساء.. قوات إنجليزية فرنسية مسلحة راح تطلق النار على من يمشى»، ولم يأبه الأطفال بالنداء خصوصا أنه لاتزال هناك ساعة أو أكثر على ال5مساء، إلا أن سيارة ضخمة تتبع قوات الاحتلال انطلقت باتجاه الأطفال الذين كان معظمهم من تلاميذ المدارس الابتدائية والإعدادية محاولة دهسهم، فما كان من حسن إلا أن التقط حجراً وقذفه باتجاه سائق السيارة، التى عادت مندفعة رغم أنها تفادت الحجر، وبصوت صفير عنيف صدر من عجلاتها بعد أن تخطت الطفلين حسن وإبراهيم بخطوات قليلة، عاد الضابط الذى فى السيارة مصوبا مسدسه إلى قلب حسن حمود مباشرة فأرداه قتيلا فى لحظة. الدكتور إبراهيم البحراوى أستاذ الدراسات العبرية بجامعة عين شمس صديق حسن الذى كان بجانبه فى المظاهرة قال: «كان موقعى بجوار الشهيد على رصيف مقهى فريال فى تقاطع شارعى الثلاثينى ومحمد على ببورسعيد، وكانت الساعة ما بين الثالثة والنصف والرابعة عصرا، شاهدنا قوات الاحتلال تنتشر فى المبانى المحيطة وتنصب الرشاشات فى كل مكان والجنود يضعون أكياس الرمال على جانبى الشارع ليأخذوا مواقعهم خلفها، وصوبوا رشاشاتهم نحو الأهالى، وحين ظهرت تلك السيارة الضخمة وانطلقت مسرعة باتجاهنا فى محاولة لدهسنا دون تحذير، صعدت مع حسن بسرعة على الرصيف تفاديا لها، فى حين التقط حسن الحجر وقذفها به، وبعد أن تخطتنا بمسافة قليلة، عادت ولم يظهر منها سوى فوهة مسدس الضابط وقد صوبها مباشرة إلى قلب حسن بشكل متعمد من مسافة لا تزيد على 10 أمتار، فأصابت قلبه مباشرة، وتصورت للحظة أننى المقصود بتلك الطلقة لأننى كنت ملاصقا لحسن لكن عندما رأيت وهج الطلقة وتحركت السيارة وسمعت صوت نيران كثيفة تصدر عن الرشاشات اكتشفت أن حسن ملقى بجانبى على الأرض وعلى قميصه بقعة حمراء فى موضع القلب». حمل شخص كبير حسن ووضعه على دكة خشبية فى اتجاه الكنيسة بجوار مدرسة الأقباط ليبعده عن نيران قوات الاحتلال، وخرج الأب بطرس قسيس المدينة، تعرف على الدكتور إبراهيم الذى كان طفلا وقتها لم يتعد ال12 عاما، وطلب منه العودة إلى البيت بعد أن أخذ منه اسم حسن وعنوان منزله، واستدرك البحراوى قائلاً: «انقطعت كل أخبار حسن عنى بعد تلك الواقعة، إلى أن عدنا إلى المدرسة بعد شهر تقريبا فأعلن الناظر أسماء الشهداء وكان حسن من بينهم، ووضع اسمه على النصب التذكارى». تفاصيل إضافية للحادث أكدها الدكتور محمد محمد سليمان حمود شقيق الشهيد الذى لم يكن تخطى ال10 سنوات بعد وقت وقوع الحادث، « توفى أخى الشهيد قبل أن يتم عامه ال16 بأسبوع واحد، حين اقتحم الضابط الفرنسى المظاهرة بسيارته الجيب وقام بطعن الشاب رمضان السيد الذى كان يحمل أخى على أكتافه فى رقبته ب«السونكى» فخر صريعا، وعندما رأى حسن صديقه رمضان يسقط قتيلا اشتعلت فيه حمية البطولة وروح الجهاد وأخذ يقذفهم بالحجارة، فقام الضابط بتصويب مسدسه إلى صدر أخى فأصابه مباشرة فى القلب، حتى إن قوة تلك الرصاصة جعلتها تخترق جسد الشهيد وتصيب كشك الجرائد بالناحية الأخرى من الشارع لتخترق مرة أخرى جداره الحديدي». ولم تكن تلك الحادثة الأولى التى يتعرض لها حسن مع قوات الاحتلال فقد كان تاريخه القصير معهم ينبئ ببطل قومى أو شهيد حقيقى، فكما يروى شقيقه الدكتور محمد: «حين بدأت غارات الطائرات الحربية على بورسعيد وقذف الأسطول البحرى المدينة قبل حادثة استشهاده بأيام تعرض منزلنا للقذف فتركنا المنزل إلى بيت خالتنا، وبعد وقف إطلاق النار بأيام اصطحبتنا أمنا أنا وحسن لإحضار بعض الأغراض من منزلنا، وكان حسن يسير بخطى واسعة كعادته ولما سبقنا بخطوات رأت أمى جنديان من الإنجليز يلهوان ببندقية، وأثناء لهوهما انطلقت منها رصاصة فى الهواء وسمعتها دورية فرنسية فأطلقت النار باتجاه حسن لكنها لم تصبه، وعندها رفع الجنديان بندقيتهما للدورية فى إشارة إلى أنهما يجرباها، وعندما علم أخى بما كان سيتعرض له غضب بشدة وصرخ هؤلاء الأوغاد يجب أن يقتلوا ولكن كيف وليس معى سلاح». كان حسن كما يصفه شقيقه واحدا من شباب بورسعيد الوطنى، ممتلئا بالحماس والرغبة فى الاستقلال ورفض الاحتلال، وانتهت حياته بطلقة غادرة سببها العدوان، ورغم أن قوات الطوارئ الدولية قد أجرت تحقيقا فى مقتل الشهيد حسن بناء على تقديم والده شكوى مرفق بها رقم السيارة التى أطلقت النار على ابنه، وبالفعل تم استدعاؤه وأخوه الأكبر إلى جلسة عسكرية أقيمت فى مدرسة «الفرير»، وتلقيا عرضا بالتعويض قابله الأب الوطنى بعبارة حاسمة ونهائية تقول: «كل أبنائى فداءا لمصر والعروبة»، إلا أن الضابط الذى أطلق النار على قلب حسن الطفل بقسوة وإصرار لم يتلق عقابا من أى نوع ولم تحاسب الجهة المسؤولة عنه بأى طريقة قانونية عن أسباب مقتل طفل كان يمشى فى مظاهرة سلمية وكان عقابه قاتلا لأنه حاول الدفاع عن نفسه وعن رفقائه من الاحتلال. ولأن جريمة الحرب يتم تعريفها بأنها الخرق الخطير والواضح لاتفاقيات جنيف التى نصت على حماية حقوق الإنسان الأساسية فى حالة الحرب، وحماية المدنيين الموجودين فى ساحة المعركة أو فى المنطقة المحتلة، وقد عرّفت المحكمة الدولية الانتهاك الخطير بأنه الانتهاك الذى له نتائج جسيمة على ضحاياه ويخرق قاعدة تحمى قيماً مهمة، وهذا التعريف يشمل الاعتداء على الحياة والصحة (القتل، سوء المعاملة، التعذيب، التشويه، العقوبة البدنية، الاغتصاب، البغاء القسرى، الاعتداء المخل بالشرف)، والإعدام الفورى، احتجاز الرهائن، العقوبة الجماعية، والنهب، ولذلك فإن جريمة اغتيال الطفل حسن يمكن إدراجها تحت جرائم الحرب، وهو ما يؤكده المستشار حسن أحمد عمر أستاذ القانون الدولى ويضيف أن جريمة الحرب لا تسقط بمرور الوقت ويبقى من حق الدولة المطالبة بالتحقيق فى جرائم الحرب التى تمت على أرضها وتجاه مواطنيها خلال فترة النزاع المسلح، مشيرا إلى أن الطرق القانونية المؤدية لذلك فى حالة الشهيد حسن هى أن تقدم الدولة طلبا للأمين العام للأمم المتحدة بإفادتها بالمعلومات عن محاكمة الضابط. من جانبه، طالب الدكتور إبراهيم البحراوى شاهد العيان على الحادث مكتب هيئة الأممالمتحدة بالقاهرة بالبحث عن تلك المعلومات والإفادة بما تم فى التحقيق مع الضابط الفرنسى، خصوصا أن الحادث موثق برقم السيارة التى تم إطلاق النار من خلالها والتى ثبت أنها تتبع قوات الاحتلال الفرنسية.