يوم الأربعاء الماضى، نشر موقع «الجزيرة نت» تقريراً تحت عنوان «مصر تحذر من بناء سدود على النيل»، وهو التقرير الذى حاول أن يعكس الطريقة التى تتعاطى بها الدولة المصرية مع هذا الموضوع ذى الحساسية والخطورة البالغتين. ومن بين التعليقات التى نُشرت أسفل هذا التقرير، تعليق ورد تحت اسم «إسماعيل العفى»، قال فيه إن «الحكومة والوزراء فى مصر مثل فريق كرة تم اختيار أعضائه جميعاً بالواسطة والمحسوبية، ولذلك فهم لا يعرفون شيئاً عن كيفية ممارسة تلك اللعبة». يعد هذا التعليق نموذجاً مثالياً لحالة شعبية مكتملة، تكرست وزادت هيمنتها على المجال العام فى مصر أخيراً؛ وهى حالة تبدأ بتوجيه الأسئلة المنطقية التى لا تجد أى إجابات شافية، فتتطور إلى احتجاج صارخ على الأوضاع المزرية، وتمر بالغضب العارم من تداعى قدرة الدولة على الاستجابة للتحديات المتفاقمة، وتنتهى بتعبير يبدو لطيفاً ومضحكاً، ولكنه يغرق فى المرارة والسخرية السوداء، ويقود بوضوح إلى اللامبالاة وانقطاع الرجاء وتبدد الأمل. لكن، لعلك لاحظت أن تعليق «العفى» لم يتطرق مباشرة إلى موقف «المدير الفنى» لهذا الفريق. فى مطلع العقد الراهن، كتب الأستاذ هيكل مقالاً فى مجلة «وجهات نظر»، قال فيه: «إن موضوع الوحدة الوطنية وموضوع مياه النيل، دون غيرهما وقبل غيرهما، هما اختصاص أصيل لرئاسة الدولة، ومسؤولية غير قابلة للقسمة تحت أى دعاوى، بما فى ذلك دعوى الفصل بين السلطات، أو دعوى الممارسة الديمقراطية.. ذلك أن مسالة دينين على أرض ووطن واحد، وكذلك مسألة نهر هو المصدر الوحيد للحياة، تجىء موارده من خارج الحدود، هما مما لا يجوز فيه التفويض ولا طول الجدل والتزيد». لطالما استطاع الأستاذ هيكل النفاذ إلى ما وراء الأحداث، ولطالما تحلى بالقدرة على الاستشراف والتحليل العميق، لكنه كان فى هذه الواقعة، على الأرجح، يتحدث عن موضوع النيل من باب إرساء الحقائق أو ضرب الأمثال؛ إذ لم تكن دول المنبع أعربت بوضوح عن استهدافها العلنى لحصتى مصر والسودان من مياه النهر، ولم تكن بالطبع وقعت اتفاقية فى عنتيبى تفتئت على اتفاقيتى 1929 و1959، اللتين تضمنان لمصر حصة مائية لا تكفى أصلاً لسد احتياجاتها، وتمنعان قيام دول الحوض بأى مشروعات قد تؤثر فى تلك الحصة دون إخطارها. فإذا كان موضوع النيل، كما قال الأستاذ، وكما يجب أن يكون على أى حال، هو اختصاص أصيل لرئاسة الدولة، فقد جرت تلك الوقائع كلها، واحتدمت الأزمة وتفاقمت، وبتنا فى هذا الوضع الخطر والغامض، دون أن يجرى أى حساب، أو يُطرح أى سؤال، عن الأسباب التى منعتنا من رصد المخاطر، وتحليلها، وطرح البدائل لمواجهتها واحتوائها، وإطلاق السياسات لتجاوزها، وربما تحويلها إلى فرص ومغانم. وإذا كانت الدولة المصرية قد تعاطت مع هذا الأمر بشكل بيروقراطى أو «مؤسسى»، أو قدرت أنه ليس بالخطورة والأهمية الفائقة التى يبدو عليها، فكلفت جهات أو وزارات أو لجاناً معينة بمتابعته، وتطوير السياسات اللازمة لمعالجته؛ فيجب أن نعرف أسماء وصفات هؤلاء الذين خذلوا الأمة، وتراخوا فى الحفاظ على مقدراتها الوطنية، وأخفقوا فى صيانة أمنها القومى، وهددوا حق أبنائها فى الحياة. فى خضم التفاعلات التى جرت على هامش أزمة دول حوض النيل، سعى كثيرون إلى التقليل من أهمية الأحداث، وذهب آخرون إلى أن «أحداً لا يجرؤ على المس بحصة مصر من المياه»، وعوّل البعض على أن الزمن كفيل بتهدئة الخواطر واستيعاب التوترات الراهنة، وراح خبراء يؤكدون أن حل تلك المشكلة يجب أن يكون عبر الصيغ التعاونية والتفاهمية، ومن خلال عودة الاهتمام المصرى بالقارة الأفريقية، وباستخدام مقدرات القوة الناعمة والاقتراب الدبلوماسى الهادئ والحذر. لكن دولاً أربع من دول الحوض وقعت اتفاقاً يمكن وصفه ب «المعادى» فى منتصف الشهر، وانضمت إليها دولة خامسة يوم الأربعاء الماضى، مستبقة زيارة رئيس وزرائها للقاهرة، لتضع مصر أمام الأمر الواقع، والباب مفتوح طبعاً لانضمام الدولتين الباقيتين. من استمع إلى تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبى مليس زيناوى نهاية الأسبوع الفائت، والتى حمل فيها على مصر بشدة، مؤكداً أنها «لا تستطيع منع بلاده من بناء سدود على النهر»، ومشدداً على أن «الأفكار البالية عن أن مياه النيل حق لمصر توزعه كما تريد قد مضى عهدها»، لا شك أدرك أن الأمر أخطر من محاولات التهوين من عواقبه. فى منتصف الشهر الجارى، دشنت إثيوبيا بالفعل سد «بيليس» على نهر النيل، وقبل ثلاثة أيام أعلنت أوغندا أنها ستبدأ فى بناء ثلاثة سدود بدورها لتوليد الكهرباء. والواقع أن المسألة لا تكمن فقط فى حجم إضرار تلك المشروعات بحصة مصر الراهنة، ولا بالمدى الزمنى الذى يمكن أن تتفاقم فيه الأوضاع لتؤثر فعلاً فى أمن البلاد المائى، ولكنها تتعلق بدولة كُسرت هيبتها، ويجرى فسخ معاهدات ملزمة أمّنت مصالحها لعقود طويلة، ويُغرى بها لفعل ما هو أخطر وأفدح ثمناً، فيما لا أحد يُقّيم لنا الأحداث، أو يطلعنا على خطة المواجهة، أو يطمئننا على جاهزية البدائل. ماذا جرى فى موضوع النيل؟ ولماذا؟ ومن المسؤول عما حدث؟ وكيف سنتصرف؟ أسئلة برسم الإجابة.