بنظرة أقرب للصرخة تطالعك صورتها، فطرفها الذى بتر بفعل لغم أرضى أحدث ندوبا فى الذات قبل الجسد، «مروة» الطفلة التى لم تبلغ العاشرة من العمر، ساقت أغنامها فى صحراء العلمين فى طقس يومى اعتادته منذ الطفولة المبكرة، وفى دورة نشاطها شردت إحدى أغنامها، لتدخل موقعاً كان مسرحاً للعمليات العسكرية بين الحلفاء ودول المحور فى موقعة العلمين عام 1942، فتحركت بفعل العادة وراءها لتتغير حياتها رأساً على عقب، فتفقد جزءاً عزيزاً من جسدها، دفعها إلى أن تتعود أن تضع قدمها الأخرى أمامها دائماً عند مطالعة دروسها لكى تتيقن أنها باقية. «مروة» وغيرها مئات من سكان مطروح قضوا أو تحولوا إلى مقعدين بفعل ألغام وأجسام قابلة للانفجار خلفتها قوات «روميل» و«مونتجمرى» قبل أكثر من 60 عاما، وتمثل تهديداً يومياً لجميع أنشطة الحياة على ساحلنا الشمالى الغربى. ووسط الإحساس بالغضب من ظلم وتعنت الدول التى زرعت الألغام وغضت الطرف عن مأساة سكان مطروح معها، سرت نقطة ضوء تخفف من وطأة فشلنا المترامى الأطراف، ففى الأسبوع الماضى جرى الانتهاء من المرحلة الأولى لإزالة الألغام من صحراء العلمين أى أن قرابة 30 ألف فدان تم تطهيرها بسواعد رجال القوات المسلحة المصرية، وبدعم من الأممالمتحدة والمعونة الامريكية وتعاون خجول من إيطاليا وبريطانيا وألمانيا، وإذا كان أول الغيث قطرة، فإن المنهجية التى تتبعها وزارة التعاون الدولى ممثلة فى الأمانة التنفيذية لإزالة الألغام، تؤشر إلى نجاح مبدئى يمكن البناء عليه، خاصة أن المفاهيم التقليدية فى إزالة الألغام قد تكسرت، ففى لقاء فى «العلمين» مع السفير فتحى الشاذلى، رئيس الأمانة التنفيذية، ذكر الرجل أن عدد الألغام فى الساحل الشمالى الغربى أقل من التقديرات الراسخة التى تداولناها لسنوات، مستنداً إلى أساليب علمية، مع حقيقة مهمة تؤكد أن الألغام المضادة للأفراد تمثل فقط 2.5% من المخلفات القابلة للانفجار، فى حين أن 75 % منها ذخائر لم تنفجر بجانب 22.5% ألغاما مضادة للمركبات. ومن المفاهيم التى تغيرت أيضاً أن الخرائط التى طالب الكثيرون على مدى سنوات بتوفيرها من الدول التى زرعت الألغام، عديمة الجدوى، فالخرائط هى مجرد تحديد لمواقع القوات على الأرض ولا تضم أى إشارة إلى الألغام، فى حين أن «تسجيلات حقول الألغام» هى المستهدف لبدء أى عملية تطهير لأنها التى تحدد اصطفاف الألغام والمسافات بينها واتجاهاتها، ولم تتسلم مصر سوى 9 تسجيلات لحقول الألغام من ألمانيا. وإذا كانت لا توجد موسيقا دون فواصل، كما لا توجد جمل من دون فراغات، فإن ما يحدث فى صحراء العلمين هو استثناء وسط ركام الفشل الذى أحبطنا جميعا، وأفقدنا القدرة على التفاؤل لتتمكن منا مشاعر اليأس والتسليم بأن التداعى هو قدرنا. وفى ظل نغمات النشاز التى تعزفها حكومة نظيف سمعنا هناك فى العلمين نغمة جديدة أطربت الجميع لأن الإخلاص رفيقها، والجدية أنيسها، وراءها القوات المسلحة والوزيرة فايزة أبوالنجا، وإرادة ترغب أن تصنع شيئا على أطراف مصر قد يساعدنا فى الخروج من الوادى الضيق لرحابة الساحل الشمالى الغربى، ليس لصالح أباطرة الاستثمار السياحى، ولكن لصالح شباب حلم أن يتجاوز البحر للطرف الآخر من المتوسط ليجد فرصة حياة. تأبى الصور السيئة أن تغادر أذهاننا فى العصر الحالى، لكن قد نرصد نقطة ضوء علَّها تتسع لتشمل المحروسة التى قهرتها أيدى الفاسدين والمحتكرين. [email protected]