ثمة سؤال مؤرق يطاردنى منذ سنين: أيهما يصنع الآخر.. السياسة أم الثقافة؟ وبعبارة أخرى: هل السلطة هى التى تصنع ثقافة المجتمع أم أن هذه الثقافة هى التى تنتج السلطة؟! أطرح السؤال بمناسبة حديثى فى المقالين السابقين عن الكرامة الإنسانية للمواطن وما تتعرض له من ممارسات التعذيب والقسوة والإهانة فى السجون وأقسام الشرطة وأماكن الاحتجاز وفى الشوارع أحياناً. (1) تعرضت معلمة شابة لشكوى من ولى أمر إحدى التلميذات بحجة أنها استخدمت العنف ضد ابنته فى حصة الألعاب الرياضية. وبصرف النظر عما إذا كانت المعلمة الشابة قد استخدمت العنف ضد تلميذتها أم لا فالذى حدث بناء على هذه الشكوى كان أمراً فى غاية الغرابة. فقد نظم مدير المدرسة ما يشبه الحفل العلنى لإهانة المعلمة المشكو فى حقها حيث قام بجمع تلاميذ المدرسة ومعلميها أثناء اليوم الدراسى وأمر المعلمة الشابة بالاعتذار العلنى لتلميذتها أمام هذا الجمع الحاشد. وقرأت المعلمة اعتذارها من ورقة مكتوبة كان المدير قد أجبرها فى وقت سابق على كتابتها. المذهل وفقاً لرواية المعلمة أن مدير المدرسة كان قد استدعاها فور مقابلة ولى الأمر الشاكى له واستخدم كل فنون ورذائل الإكراه لكى يجبرها على كتابة خطاب الاعتذار وتلاوته علناً فى حفل الإهانة الجماعى أمام كل تلاميذ المدرسة. وكان من بين وسائل الإكراه تهديده لها بأن جهة أمنية سوف تقوم باستدعائها، وأنه لا يعرف ماذا سيحدث لها كفتاة عذراء داخل هذه الجهة الأمنية!! الدلالات الصادمة والمحيّرة لهذه القصة المؤلمة كثيرة. ما معنى أن يقوم رجل تربوى فى مؤسسة تربوية بامتهان كرامة هذه المعلمة وإذلالها، حريصاً ومتعمداً أن يتم ذلك وسط اصطفاف جماعى من تلاميذ المدرسة ومعلميها؟ ألم يكن ممكناً لهذا التربوى، وبفرض صحة ما نُسب إلى المعلمة، أن يستدعيها إلى مكتبه لكى تقدم اعتذارها مباشرة لوالد التلميذة الشاكية إذا كان هناك حقاً ما يوجب الاعتذار؟ وكيف يسمح مثل هذا المدير التربوى لضميره الإنسانى والمهنى أن يقوم بترويع المعلمة وتهديدها باستدعاء جهاز أمنى لها، ولماذا يزج أصلاً باسم هذا الجهاز الأمنى؟ إن أخطر ما توحى به التساؤلات السابقة هو أن ما نشكو منه فى مواجهة السلطة من امتهان كرامة الناس قد أصبح، فيما يبدو، ثقافة وسلوكاً لبعض الأفراد يمارسونه فى مواجهة بنى جلدتهم. ثقافتنا إذاً فى موضع الاتهام بقدر ما نشكو من السلطات (2) ثلاثة أخبار متفرقة شهدها الأسبوع الماضى لا يملك المرء تجاهلها. فإذا كانت أجهزة الأمن هى تقليدياً موضع الشكوى والانتقاد والاتهام فى ملف الممارسات المهينة لكرامة المواطنين فإن الإنصاف يقتضى أن نسجل لها مواقف أخرى قد نختلف على درجة أهميتها أو دلالتها، لكن المؤكد أنها تكشف عن شجاعة سياسية ومهنية ليس من العدل إنكارها. الخبر الأول الذى قد يبدو تقليدياً فى ذاته هو إعلان وزارة الداخلية عن تنظيم دورة تثقيفية جديدة لضباط الشرطة حول احترام حقوق الإنسان، وهو أمر يعنى أن هناك حاجة مهنية ووعياً سياسياً نرجو أن يترسخ أكثر فأكثر بشأن أهمية ذلك. ما نرجوه ونلحّ عليه دائماً أن يكون احترام رجال الشرطة لكرامة المواطنين، ولو فى حدها الأدنى، أحد معايير تقييم الأداء المهنى السنوى لرجال الشرطة من قبل إدارة التفتيش فى وزارة الداخلية. الخبر الثانى هو محاكمة ثلاثة من ضباط الشرطة أمام إحدى محاكم الجنايات عما نُسب إليهم من ارتكاب أفعال تعذيب واستعمال القسوة بحق بعض المواطنين. قد يبدو الخبر عابراً لكنه لا يخلو من إشارات قضائية ومهنية وسياسية تثير التفاؤل بقدر ما يبدد شيئاً من الهموم الجاثمة على الصدور. أما الخبر الثالث، وربما الأهم، فكان إعلان وزارة الداخلية عن تعويض 840 معتقلاً سابقاً من أعضاء الجماعة الإسلامية عما تعرضوا له من اعتقال وتعذيب فى فترات سابقة بمبلغ عشرة ملايين جنيه. وسوف يتراوح ما يحصل عليه المعتقلون كتعويض بين عشرة آلاف وسبعين ألف جنيه. وبصرف النظر عما يقال حول مدى كفاية هذه المبالغ أو أنها ستدفع من خزانة الدولة فإن الموقف فى ذاته بادرة إيجابية وتكريس-وهذا هو الأهم- لثقافة المراجعة والمساءلة والاعتراف بالخطأ. (3) لماذا لم يقدر لترسانتنا القانونية أن تردع الجناة، مرتكبى جرائم التعذيب واستعمال القسوة وامتهان الكرامة الإنسانية للمواطنين، ولدينا المادة 57 من الدستور المصرى التى تعتبر أن جرائم الاعتداء على الحرية الشخصية جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية عنها بمرور الزمن، ولدينا أيضاً المادة 126 من قانون العقوبات التى تجرّم التعذيب وتعتبره جناية يعاقب فاعلها بأشد العقوبات؟ الواقع أنه ليس بالعقوبات وحدها مهما كانت قاسية يمكن ردع الجناة ومكافحة ظاهرة التعذيب. فالمشكلة ليست مشكلة عقوبة جريمة التعذيب وجعلها أشد قسوة مما هى عليه، وهل هناك أكثر من السجن المؤبد أو المشدد كعقوبة للتعذيب؟ أين المشكلة إذن؟ المشكلة تكمن فى الثغرات العديدة التى ينطوى عليها شق التجريم وليس شق العقوبة فى المادة 126 من قانون العقوبات. والمطلوب هو تعديل النص الحالى لهذه المادة تعديلاً ذكياً يتيح تجريم بعض الأفعال التى تفلت من شباك هذا النص الهش المهلهل من ناحية، ويسهم فى تفعيل إمكانية رفع الدعوى الجنائية ضد المتهمين بالتعذيب ولو بطريق الادعاء المباشر من ناحية أخرى. فمن ناحية أولى، وعلى صعيد التجريم، مازالت هناك ثلاث صور شائعة الوقوع فى العمل لكنها غير مجرمة فى النص الحالى للمادة 126 عقوبات. الصورة الأولى، تعذيب مواطن لا تصدق عليه بعد صفة المتهم لعدم توجيه الاتهام إليه من النيابة العامة أو لعدم اتخاذ أى إجراء من إجراءات التحقيق الابتدائى ضده. فالشخص الذى قد يتم احتجازه أو تقييد حريته فى مكان ما دون أن تعلم بأمره النيابة العامة، وقد يكون مجرد مشتبه فيه لا تتوافر فيه بعد صفة المتهم بالمعنى القانونى الدقيق، مثل هذا الشخص لا يندرج تعذيبه ضمن وصف جناية التعذيب المنصوص عليها فى المادة 126 من قانون العقوبات، بل يعتبر تعذيبه داخلاً ضمن وصف جنحة استعمال القسوة مع الناس المنصوص عليها فى المادة 129 من قانون العقوبات، والفارق كبير بين الجناية والجنحة إذ عقوبة الأولى أشد بكثير من عقوبة الثانية. كما أن تعذيب أقارب المتهم مثلاً بقصد إجبار المتهم على تقديم نفسه لا يعتبر من قبيل جناية التعذيب لأنهم ليسوا بمتهمين!! ومن هنا ينبغى تعديل نص المادة 126 من قانون العقوبات بحيث يشمل تعذيب المتهم أو أى شخص آخر يتم احتجازه أياً كان المكان الذى يتم فيه هذا الاحتجاز. والصورة الثانية التى يجب تجريمها هى تعذيب المتهمين أو غيرهم ولو لم يكن ذلك بقصد حملهم على الاعتراف. وهذه هى الثغرة الكبرى فى النص الحالى للمادة 126 عقوبات. فجريمة التعذيب لا تتوافر من الناحية القانونية حتى الآن إلا إذا كان هذا التعذيب بهدف إجبار المتهم على الاعتراف بارتكابه جريمة ما. لكن ماذا عن تعذيب المتهمين أو غيرهم لأهداف وغايات أخرى غير الاعتراف بارتكاب جرم ما؟ مازالت هذه الأفعال خارج نطاق المادة 126 من قانون العقوبات. الصورة الثالثة هى تعذيب المتهمين والمحتجزين بأى شكل من الأشكال التى يتصور بها التعذيب، سواء كان ذلك بفعل إيجابى مثل الضرب أم بمجرد الامتناع مثل عدم تقديم الطعام والشراب أو الدواء، مما يترتب عليه إلحاق الأذى بالشخص وتعريض حياته للخطر. كما أن مفهوم التعذيب يجب أن يشمل صورة امتهان الكرامة الآدمية للشخص مثل تجريده كلية من ملابسه أو إتيان أى فعل آخر يحط من كرامته الآدمية كإنسان، ولو لم يترتب على ذلك أذى بدنى معين كجراح أو إصابة. فأفعال الإهانة التى تصل لهذا الحد لا تقل فى أثرها النفسى عن أفعال التعذيب البدنى الأخرى ما يجعلها جديرة بالتجريم. هكذا يجب تعديل النص الحالى ليشمل التعذيب بفعل إيجابى أو بطريق الامتناع الإرادى، وسواء نشأ عن ذلك أذى بدنى أم نفسى لحق بالمتهم أو المحتجز أياً كان مكان احتجازه. أما على صعيد إجراءات الملاحقة القانونية فإن تفعيل المادتين 126 و129 من قانون العقوبات لا يقتصر فقط على ضرورة توسيع نطاق التجريم على النحو السابق إيضاحه، بل ينبغى أن يشمل أيضاً إجازة تحريك الدعوى الجنائية ضد المتهمين بارتكاب هذه الجرائم بطريق الادعاء المدنى المباشر. وهذه الآلية تتيح للمضرور من الجريمة أن يرفع دعواه مباشرة أمام المحكمة الجنائية طالباً التعويض عما أصابه من ضرر، بحيث يؤدى طلبه التعويض إلى نظر الدعوى مباشرة فى شقها الجنائى أمام المحكمة الجنائية. ولئن كان مثل هذا التطوير المنشود لا يتسق مع ما هو مقرر حالياً من اقتصار الادعاء المدنى المباشر على جرائم الجنح دون الجنايات فليس ثمة ما يمنع من تعديل النصوص الحالية ذات الصلة على نحو ما بهدف تعزيز الحماية القضائية لضحايا جرائم التعذيب. مرة أخرى.. هذه المقترحات وغيرها جاهزة فى أدراج المجلس القومى لحقوق الإنسان. (4) يقول الشاعر الراحل صلاح عبدالصبور: رووا يا صحبتى الأحرار فيما قالوا بأن الطفل يولد مثل نسم الريح وحين يدق فوق الأرض تثقل ساقه الأغلال يقيده إلى الدنيا تراب شمّه الأجداد. [email protected]