لم تمر أسابيع على واقعة تعذيب الطبيب طه عبدالتواب، حتى توفى فلاح بسيط يسمى فضل عبدالله حسين فى أحد أقسام الشرطة بمحافظة المنيا، قبض عليه تنفيذاً لحكم قضائى، وقيل إنه تعرض للضرب حتى الموت. رفض أهله أخذ العزاء، وإلى أن تتضح الحقيقة كاملة فإن الأسئلة ذاتها تتكرر وتصرخ وتئن، وتدعونا لأن نراجع واقعنا دونما مواربة أو خجل. كتب لى أحد القراء تعليقاً على مقال الأسبوع الماضى يرثى لبراءتى فى الاعتقاد بجدوى الكتابة فى هذا الموضوع ووصفنى آخر بالرومانسية السياسية لأننى أحرث فى البحر. واليوم وبعد واقعة وفاة هذا المواطن البائس فى قسم الشرطة وهو ما أثبته تقرير الطبيب الشرعى تتأكد لى أهمية الكتابة عن هذه القضية. إذ ما فائدتنا، وما جدوى الكتابة إن لم نسع إلى تغيير واقعنا إلى الأفضل؟ (1) خمسون عاماً أو أكثر وكرامة الناس فى هذا البلد تمتهن ونفوسهم تنكسر وقاماتهم تنحنى. خمسون عاماً وممارسات التعذيب والقسوة والتفنن فى إهانة البشر تكاد تصبح قدراً يسلمنا من حقبة لأخرى وإن اختلفت الأسباب والأسماء والأيديولوجيات. أخطر ما فى الأمر حين نكتشف أن هذه الممارسات قد أنتجت فى مصر عبر خمسة أو ستة عقود نموذجين من البشر جماعات إرهابية، ومجتمعاً خائفاً مقهوراً. النموذج الأول أفراد وجماعات اختزنت ذاكرتها البصرية والسمعية مشاهد وحكايات التعذيب والتنكيل التى حدثت فى الستينيات فازدادت عنفاً ونقمة على الدولة وربما على المجتمع كله. ولم تكن جماعات مثل التكفير والهجرة والجهاد وغيرهما إلا الإفراز الطبيعى لهذه المرحلة. النموذج الثانى هو المجتمع المقهور الخائف الذى خارت قواه وضعف انتماؤه فاختار البعض منه طريق السلبية وانزوى بعيداً عن المشاركة والعمل العام، لا يكترث حتى بحمل بطاقة انتخابية ويخشى مجرد السير بجوار مظاهرة سلمية، واختار البعض الآخر طريق نفاق السلطة، والاستفادة منها. هكذا تراجع حلمنا فى النهوض والتقدم بل تراجعت القضية الوطنية ذاتها بين سلبية البعض وخوفه وبين نفاق البعض الآخر وانتهازيته. والعدد الذى تبقى من المصريين بعد ذلك هو حفنة آلاف من المصريين لم تكتمل بهم مظاهرة حتى اليوم!! قد يرى البعض أن ممارسات التعذيب وامتهان كرامة المواطن هى حالات استثنائية، ونحن مستعدون لأن نصدق أن هذه الممارسات هى بالفعل حالات استثنائية. لكن لو أن واحداً فقط من كل عشرة أشخاص (وبهذه النسبة نبقى فى إطار الاستثناء) تعرض عند القبض عليه أو اعتقاله للتعذيب أو امتهان كرامته فإن ذلك يعنى أن لدينا كل عام عدة آلاف من المواطنين المثقلين بكوابيس التعذيب والإهانة، وما تعرض له أصحاب الرأى من شباب المدونين وغيرهم يثقل الضمير ويوجع القلب، ثم إن تقارير المجلس القومى لحقوق الإنسان وغيرها من تقارير الجمعيات الحقوقية الأخرى توثق كل عام من حالات التعذيب ما يندى له الجبين. السؤال مرة أخرى متى نواجه هذا الواقع دونما مواربة أو عناد؟ أرجو ألا يعتقد البعض أن الدعوة إلى سجون وأقسام شرطة بلا تعذيب أو امتهان لكرامة البشر هى من قبيل الرومانسية السياسية. إنها مطلب ضرورى ومُلحّ لم يعد يحتمل الإرجاء، وأظن أنه ينبغى أن يكون بنداً أساسيا فى مشروع أى مرشح للرئاسة نهاية العام القادم مثله مثل أى بند يتعلق بتحسين الأحوال الاقتصادية أو التعليم أو الصحة. لابد من إعادة الاعتبار لكلمة الكرامة الإنسانية فى الخطاب السياسى والتى بدونها سيبقى مشروع أى مرشح للرئاسة مشروعاً ناقصاً غير مكتمل. إن رجل الشرطة غير الكفء الذى يرى فى تعذيب مواطن وسيلته الوحيدة لانتزاع اعتراف أو لتخويفه من ممارسة حقه فى التعبير عن رأيه- يسىء إلى المهمة المقدسة النبيل، يسىء لكل رجال الشرطة الحارسين لحياة المواطنين وأعراضهم وأموالهم. أشعر أحياناً بأن الذين يلجأون للتعذيب كممارسة اعتيادية فى عملهم الشرطى إنما يهدرون الدم الطاهر لزملائهم الذين يضحون بحياتهم وهم يدافعون عن أمن الناس واستقرار المجتمع. وكلما اعتصرنى الحزن- وأنا أتابع جنازة واحد من رجال الشرطة سقط شهيداً أثناء أداء واجبه فى مطاردة مجرم أو عصابة- شعرت فى اللحظة ذاتها بأن الذين دأبوا على تعذيب المواطنين وانتهاك كرامتهم إنما يسيئون إلى هذه المشاعر الحزينة لدىّ ولدى غيرى. (2) يقتضى الإنصاف أن نسجل محاولات وزارة الداخلية فى تنظيم دورات تثقيفية وتدريبية لضباط الشرطة فى مجال حقوق الإنسان، وما قامت به من اتخاذ الإجراءات التأديبية ضد بعض رجالها الذين ينتهكون كرامة المواطنين داخل أقسام الشرطة أو خارجها. ربما كان المطلوب أن تعلن وزارة الداخلية عن هذه الإجراءات التأديبية التى تتخذها بحق هؤلاء فى وسائل الإعلام دون الإشارة بطبيعة الحال لأسمائهم. هذا يضيف لوزارة الداخلية ولا ينتقص منها. والإنصاف يتطلب أيضاً أن نسجل كل الحالات التى أحيل فيها بعض رجال الشرطة إلى المحاكمة الجنائية بسبب ما ثبت بحقهم من ارتكاب جرائم تعذيب وسوء معاملة للمواطنين. لكن ما توثقه التقارير الحقوقية ومنها تقرير المجلس القومى لحقوق الإنسان يؤكد أن الظاهرة ما زالت حتى الآن أكبر من محاولات مكافحتها. هنا لابد من التساؤل عن عدم نجاح الوسائل والأدوات الإدارية والرقابية والتشريعية فى مكافحة الظاهرة حتى الآن. إن دور إدارة التفتيش فى وزارة الداخلية يبدو اليوم على جانب عظيم من الأهمية لكننا لا نعرف ما هى قواعد العمل والمعايير التى تطبقها. كل ما نعلمه أنه لابد من تحديث نظام عمل هذه الإدارة وفلسفتها. هذا يصب فى مصلحة وزارة الداخلية والمجتمع معاً ويعيد الثقة بين المواطن والشرطة. وهى ثقة مضطربة ومهتزة لكى لا نقول إنها منعدمة. هذا واقع يجب أن نقر به بعيداً عن الشعارات إياها. هل من قبيل الحلم لو أننا طالبنا السيد حبيب العادلى وزير الداخلية أن يخرج إلى الناس فى وسائل الإعلام لكى يعلن أنه أمر بإجراء تحقيق حول ما نشر من انتهاكات ارتكبها بعض رجال الشرطة؟ هذا يحدث كثيراً فى البلدان المتحضرة. قد نكون أقل تحضراً من هذه البلدان لكننا لسنا أقل استحقاقاً لأن كرامة البشر متساوية. وزراء داخلية فى دول أخرى طالما خرجوا ليصرحوا فى وسائل الإعلام بأنهم أمروا بإجراء تحقيقات فى تجاوزات لرجال الشرطة وبعضهم قدم اعتذاراً. لو فعلها السيد حبيب العادلى لانتزع إعجاب وتأييد المجتمع كله. (3) أول ما يجب عمله على صعيد الأدوات الرقابية لمكافحة ممارسات التعذيب وانتهاك كرامة المواطنين هو تفعيل سلطة أعضاء النيابة العامة والقضاة الذين يخول لهم القانون زيارة السجون وأماكن الحبس والاحتجاز للتأكد من الالتزام بأحكام القانون وسماع شكاوى المحبوسين والتأكد من عدم وجود محبوس بصفة غير قانونية. هذا ما تنص عليه صراحة المادة 42 من قانون الإجراءات الجنائية المصرى التى تقرر أن «لكل من أعضاء النيابة العامة ورؤساء المحاكم الابتدائية والاستئنافية زيارة السجون العامة والمركزية الموجودة فى دوائر اختصاصهم والتأكد من عدم وجود محبوس بصفة غير قانونية، ولهم أن يطلعوا على دفاتر السجن وعلى أوامر القبض والحبس، وأن يأخذوا صورة منها، وأن يتصلوا بأى محبوس ويسمعوا منه أى شكوى يريد أن يبديها لهم، وعلى مدير وموظفى السجون أن يقدموا لهم كل مساعدة لحصولهم على المعلومات التى يطلبونها». هذا نص تشريعى فى غاية الأهمية من الناحية النظرية، ويمكن أن يكون هو حجر الزاوية فى السياسة الرقابية لمكافحة التعذيب وغيره من الممارسات المهينة للكرامة الإنسانية لو تم تطويره وتفعيله على أرض الواقع من نواح ثلاث. من ناحية أولى فإن أهم ما يجب تعديله فى النص الحالى أن تكون زيارة أعضاء النيابة العامة للسجون وأماكن الحبس والاحتجاز وجوبية وليست جوازية كما تدل الصياغة الحالية للنص. المطلوب أن تكون زيارة هذه الأماكن وجوبية بحيث يتعين على أعضاء النيابة العامة القيام بها على نحو دورى ومنتظم كما تنص على ذلك بعض التشريعات الأجنبية مثل القانون الفرنسى. وقد سبق للنيابة العامة فى مصر أن قامت بين الحين والآخر بزيارة بعض أقسام الشرطة للتأكد من تطبيق أحكام القانون. وتضمن التقرير الثالث للمجلس القومى لحقوق الإنسان ما كشفت عنه هذه الزيارات من مخالفات. ومن المؤكد أن تعميم مثل هذه الرقابة والقيام بها على نحو دورى يمكن أن يسهم فى مكافحة الممارسات غير القانونية والأوضاع غير الآدمية التى لا تخلو منها أقسام الشرطة وأماكن الحبس والاحتجاز. ومن ناحية ثانية فإن سلطة النيابة العامة والقضاة المخولين قانوناً يجب أن تمتد بنص المادة 42 من قانون الإجراءات الجنائية إلى سائر أماكن الحبس والاحتجاز أياً كان مسماها دون أن تقتصر فقط على السجون العمومية والمركزية كما تشير لذلك الصياغة الحالية للنص. صحيح أن لأعضاء النيابة العامة زيارة أقسام الشرطة بموجب نصوص أخرى، لكن النص على ذلك فى صلب قانون الإجراءات الجنائية هو أمر مطلوب لأنه يسمح بزيارة النيابة العامة لأى مكان يحتجز فيه شخص بصرف النظر عن مسمى هذا المكان. ومن ناحية ثالثة فإن الوضع الحالى لا يغنى عن ضرورة إجراء تطوير قانونى أكثر عمقاً يتم فيه الأخذ بنظام الإشراف القضائى على تنفيذ العقوبات أو ما يعرف بقاضى التنفيذ العقابى. ومن شأن الأخذ بهذا النظام أن يكون للقضاء الإشراف على السجون وغيرها من أماكن الحبس والاحتجاز. وقد سبق لى شخصياً حين شرفت برئاسة اللجنة التشريعية للمجلس القومى لحقوق الإنسان أن أعددت مع زملائى بالمجلس مقترحاً بمشروع قانون للأخذ بنظام الإشراف القضائى على السجون. المطلوب إخراج هذه المقترحات والدراسات من أدراجها وطرحها على الرأى العام وتقديمها إلى السلطة التشريعية المختصة بسن القوانين. وهذه مهمة تدخل على الأقل فى الوظيفة الاستشارية للمجلس القومى لحقوق الإنسان. تبقى هناك أولوية تشريعية أخرى هى سد الثغرات التى يمتلئ بها نص المادة 126 من قانون العقوبات المصرى إلى تجريم أفعال التعذيب. فلا نبالغ إذا اعتبرنا أن النص الحالى يبدو هشاً مهلهلاً ويفلت من ثغراته الواسعة الكثير من الممارسات غير القانونية فى أماكن الحبس والاحتجاز. فليكن لذلك حديث آخر إن شاء الله. (4) يقول الشاعر الراحل أمل دنقل: «يا قاتلى: إنى صفحت عنك فى اللحظة التى استرحت بعدها منى استرحت منك!» [email protected]