كنت فى زيارة لمزرعة أحد أصدقائى، وعلمت منه أنه يقوم بتربية بعض خلايا النحل ليحصل منها على العسل له ولأصدقائه، وأبديت رغبتى فى أن أشاهد هذه الخلايا وأخذنى هو وبعض عماله إليها فشاهدتها عن بعد والنحل يطوف حولها، وعند اقترابى من إحدى الخلايا سمعت طنين نحلة فى أذنى فرفعت يدى كى أدفعها بعيدا كما نفعل مع الذباب أو الناموس عندما يقترب منا، وإذا بصاحبى وعماله يصيحون محذرين من هذه الحركة التى تغضب النحلة وتدفعها إلى الانتقام منى بلسعى وفوجئت بأحد العمال يدفعنى بسرعة ويقف مكانى محاولا خداع النحلة بأنه هو الذى حاول طردها حتى تلدغه وتتركنى أنا لأن اللسع قد يؤذينى أما هو فقد اعتاد عليه، ثم حاول الجميع إبعادى عن مكان النحل حتى لا يصل إلىّ، ورغم محاولة خداعه لم تنخدع النحلة ولم تضل أو تيأس من العثور علىّ وانتهزت فرصة مواتية وقامت بلسعى فى رقبتى ولما وضعت يدى بسرعة مكان لسعة النحلة سارع الجميع بمنعى من الهرش فيه وأسرع بعضهم باستخراج خرطوم النحلة الحاد الذى تتركه فى مكان اللسعة، وبعدها هدأ الألم ولم تحدث مضاعفات لأنها لا تحدث إلا لمن لديه حساسية ضد لسع النحل، ولم أكن والحمد لله منهم، ولسع النحل لمن لا يعرف تعالج به بعض الأمراض يعرفها بعض العاملين فى العلاج الطبيعى. لم تمر علىّ هذه الحادثة الصغيرة مرور الكرام بل دفعتنى إلى التفكير كثيرا، خاصة أننى لم أقم بمحاولة إيذاء النحلة أو مطاردتها حتى أثيرها أو أدفعها للانتقام منى، بل كل ما فعلته هو محاولتى دفعها بيدى كما أفعل مع الذبابة أو الناموسة، وكلتاهما لا تغضب ولا تثور بل تعاود الكرة تلو الكرة، ونحن نعاود دفعها بلا ملل منها أو كلل منا، هذا أسلوب تعودناه فى كل حياتنا لا يلفت النظر ولا نجد فيه غرابة، فما بال النحلة تعتبر هذا الأسلوب إهانة لها تدفعها إلى الانتقام السريع ولا تترك ثأرها، ولا يجدى فى منعها الخداع أو التمويه، وقلت لنفسى: هل هناك وجه للمقارنة بين من يعيش على رحيق الزهور ويخرج لنا العسل الذى فيه شفاء للناس، وبين من يعيش على القاذورات ويخرج لنا الأمراض التى تقضى علينا؟ إلا أننى راجعت نفسى وقلت لها إن الأمر ليس أمر طعام فاخر وآخر فاسد وإلا لكان كل من يأكل طعاما فاخرا لديه كرامة وأخلاق حميدة، وكل من يأكل طعاما فاسدا ليس لديه كرامة ولا حسن خلق، وهذا ما نرى عكسه فى حياتنا العامة، فليست الكرامة مقصورة على الناس الأغنياء ولا الذلة مقصورة على الفقراء، فقد نجد من بين علية القوم من يدوس على كرامته من أجل المال والمنصب، ومن بين الفقراء من لا يرضى أن يبيع كرامته بمال الدنيا أو أعلى المناصب، وقد كنا فى الماضى نقول إن من الفوارق بين الإنسان والحيوان الكرامة، وإذا بنا نجد أن من بين الحشرات من لديه كرامة أكثر من الإنسان الذى كرمه ربه ووضعه فى أحسن صورة إلا أنه يصر على أن يهين نفسه ويذلها فى سبيل عرض زائل أو رغبة مؤقتة. ترى لو كانت النحلة تعرف تقبيل اليد هل كانت ستقوم بتقبيل يد ملكة النحل فى سبيل أن تحظى منها بعطاء أو منصب كما يفعل الإنسان أحيانا، ترى لو كانت النحلة تعرف النفاق الرخيص هل كانت ستقوم بتدبيج عبارات المدح الكاذب والرياء للملكة من أجل منصب أو عطاء كما يفعل الإنسان؟ أشك كثيرا فى ذلك لأن الحريص على كرامته لا يفعل ذلك وهو لا يعرف إلا العمل الدائم طريقا للوصول إلى ما يريد. يقول المولى سبحانه وتعالى: (ولقد كرمنا بنى آدم)، وعندما يتأمل الإنسان كل ما حوله من جماد وحيوانات وحشرات خلقها الله وسخرها له يشعر بمعنى هذه الآية، وكيف أن هيئته ومعطيات الحياة فيه وما أودعه الله فيه من عقل وضمير وأخلاق يدل دلالة واضحة على هذا التكريم الذى جعل الله سبحانه وتعالى يأمر الملائكة بالسجود لآدم، أصل البشرية، فسجدوا له جميعا إلا إبليس اللعين أَبَى أن يسجد معترضا على أن يسجد لمخلوق من طين فى حين أنه هو خُلق من نار، كأنما المادة التى خُلق منها المخلوق هى أساس المفاضلة، ولو كان الأمر كذلك لتساوى الحيوان والإنسان لأن كلاً منهما يُخلق من نطفة من ماء مهين. ترى لماذا تشعر النحلة بالإهانة لمجرد حركة من يد تدل على عدم الرغبة فى الاقتراب، وما الدافع الشديد لها على الانتقام ممن يفعل ذلك، تمنيت أن أكون من علماء الحيوان والباحثين فى علوم الحشرات حتى أحصل على إجابة شافية لهذا الموضوع الحساس الذى يدعو الإنسان إلى التفكير فى أن يكون فى الحشرات مخلوق يعتز بكرامته ويثأر لها، وهى المخلوقات الضعيفة التى يُضرب بها المثل فى الدونية والحقارة، لأننا عندما نحاول أن نظهر ضعف إنسان أو حقارته نشبهه بالحشرة، ترى كيف نُغضب حشرة لمجرد إشارة من يد تدل على عدم الرغبة فى اقترابها، فى حين لا يغضب إنسان كرمه الله من صفعة على الوجه أو القفا أو ركلة فى المؤخرة، أو دفعة تسقطه على الأرض أو ضرب مبرح قد يقعده عن الحركة أو يفقده عضوا من أعضائه، وقبل ذلك وبعده أفقده كرامته وعزته التى كرمه الله بها على سائر مخلوقاته. لقد ولدتنا أمهاتنا أحرارا فلماذا نرضى بالعبودية، وخلقنا الله أعزاء فلماذا نرضى بالذل، وكرمنا فلماذا نرضى بالإهانة؟ واقعة أخرى شاهدتها فى مزرعة صديقى لفتت نظرى وجعلتنى أفكر كثيرا فيما نحن فيه، لدى صديقى فى المزرعة بعض الأغنام من ماعز وخراف، وأراد أن يذبح أحد ذكور الماعز فذهب عامل مزرعته وأحضر الذكر من بين الأغنام وحمله قصرا حتى خرج به من الحظيرة، وإذا بباقى القطيع يصيح بلا انقطاع احتجاجا على أخذ ذكر الماعز عنوة من بينهم، محاولة فتح باب الحظيرة للخروج للبحث عنه والتضامن معه ومحاولة كف الأذى عنه، وعندما فتح أحد العمال لها الحظيرة خرجت جميعا تصيح متفرقة فى أنحاء المكان بحثا عن ذكر الماعز، وظل هذا الوضع مدة طويلة حتى أعياها التعب والصياح ويئست من العثور عليه حيث كان قد ذبح خفية، لفت نظرى بشدة هذا الحادث وقلت إذا كانت الحيوانات تتعاطف مع بعضها هكذا وتشعر بالألم والخوف والقلق على مصير أحد أفرادها، وتحتج بطريقتها على ما يمكن أن يلحق به من أذى ولا تكف عن البحث عنه والغضب من أجله حتى يدركها التعب، فما بال الإنسان لا يحفل بأى أذى يلحق بجاره أو صديقه أو حتى شقيقه ووالده أو ولده، كيف يهنأ الإنسان وشقيقه محبوس بغير جريمة، كيف يعيش وهو يعلم أنه يعذب ويهان بغير ذنب، كيف يأكل وجاره جوعان، كيف ينام وجاره لا يجد مأوى يحميه من برد الشتاء وحر الصيف، كيف يحتضن أولاده وينعم بالقرب منهم وإلى جواره أطفال جيرانه محرومون من أبسط مبادئ الطفل فى الحياة وهى الطعام والكساء والمأوى والدواء؟ عندما يقترب منى أحفادى وأضمهم فى حنان وأشاهدهم يلهون ويلعبون ويمرحون من حولى وأنا سعيد بهم أتذكر أطفال غزة الذين حرمناهم من أبسط حقوق الطفل، وهى اللعب والشعور بالأمان والإحساس بالحنان، وكثيرا ما أسأل نفسى وأنا أشاهد أحفادى يتقافزون لاعبين من حولى ويتيهون علينا جميعا دلالا ودلعا، أسأل نفسى: ترى هل يعرف أطفال فلسطين الدلع؟! نقول أحيانا واصفين أطفال الأغنياء إن طفل الغنى ولد وفى يده ملعقة من ذهب، أما أطفال فلسطين فإننا نقول عنهم إن الطفل يولد وفى يده حجر يقذف به الجندى الإسرائيلى الذى اغتصب أرضه، إن الطفل الفلسطينى يولد وفى يده بندقية صغيرة يصوبها نحو العدو الغادر الذى يحاول اقتحام منزله والاستيلاء عليه وهدمه من أجل بناء المستوطنات للصهاينة الغاصبين، إن الطفل الفلسطينى يولد وفى يده عصا صغيرة يحاول أن يدافع بها عن المسجد الأقصى الذى يحاول اليهود هدمه ومنع المسلمين من الصلاة فيه وتحويله إلى كنيس لصلاتهم، وهم يضمون المساجد والكنائس من حوله من أجل تحويلها إلى معابد لصلاتهم، ويحفرون من تحته حتى ينهار ولا يصبح هناك شىء اسمه المسجد الأقصى يحتج به المسلمون، هل الدفاع عن المسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين، هو واجب على أهل فلسطين وأطفالهم فقط، أم هو واجب على كل مسلم ومسيحى فى العالم كله؟ فلماذا نتركهم وحدهم فى هذه المعركة الشرسة بين عدو مدجج بالسلاح وإخوة لنا عزل من كل شىء إلا العزيمة والإيمان والكرامة والعزة؟ لا ننتظر من الحكومات العربية الدفاع عن الأقصى لأنهم مشغولون بالدفاع عن عروشهم وكراسى الحكم ضد شعوبهم التى ملتهم وكرهت بقاءهم وتتمنى اليوم الذى تشاهد فيه انهيار عروشهم. وكل الأمل معقود على الشعوب العربية والإسلامية ، والأمر المستغرب هذه الأيام، خاصة فى مصر، أن الحكومة لا ترحم الأقصى ولا تدع رحمة الله تنزل عليه، فهى إذا كانت لا تستطيع الدفاع عنه فإنها لا تترك الشعب الذى لديه استعداد للتضحية من أجل الأقصى يدافع عنه حتى بالكلمة التى تشعر إخواننا فى فلسطين أن هناك إخوة لهم يشعرون بمعاناتهم، فهى تقمع المظاهرات التى تخرج إلى الشارع منددة بما يحدث من عدوان على المسجد الأقصى، وكأنما خرجت هذه المظاهرات لمهاجمة الحكومة المصرية وليس مهاجمة الحكومة الإسرائيلية الأمر الذى يثير عجب الناس واستغرابهم. أيها المصريون والعرب والمسلمون والمسيحيون فى جميع أنحاء العالم، المسجد الأقصى فى خطر، والصهاينة أعداء الحرية والبشرية فى العالم كله يتآمرون عليه، وهذه مسؤوليتكم أمام الله والتاريخ.. فماذا أنتم فاعلون من أجله؟ ■ همسة فى أذن شيخ الأزهر الجديد: إن الناس غير متفائلين بقدومك لمواقفك السابقة وموقعك من الحزب الوطنى، فهل يمكن أن تخلف ظنهم؟ وتضع الآخرة وعذاب القبر أمام عينيك فى كل تصرف تقوم به، وتتذكر دائما أن الموت قريب، وأن الآخرة خير لك من الأولى، وأنها لو دامت لسابقك لما وصلت إليك. [email protected]