نورا ونادية وأحمد: الفقر ما يعرفش الراجل من الست «الدنيا بقت وحشة، اليومية هى هى، والصحة ما عادتش زى زمان.. ما حدش يقولى ست وراجل الفقر بيخلى الراجل زى الست كله بيجرى على لقمة العيش» هكذا بدأت نورا فاروق حكايتها مع العمل الذى يبدأ من الخامسة صباحا «بطلع على الفجرية أجمع الشيح، وصحتى راحت وبالعافية باجمع اللى يجيب كام جنيه لأن الشيح ده صغير أوى ومحتاج الواحدة تدقق وهى بتجمع» لا تترك نورا التى خطف الموت زوجها فجأة موسم «الذهب الأخضر» يمر دون أن تشارك فيه أيضا «كله عشان العيال دول، بنتى الكبيرة يادوب عندها 7 سنين وبتشتغل معايا فى الغيط وعشان هى عيلة بيدوها نص اليومية فلو أنا خدت جنيه تاخد هى 50 قرش وبنطلع غصبن عننا من الفجرية فى الندى والشتا عشان نجيب فلوس نعيش بيها أنا وحدانية وجوزى مات وساب فى رقبتى كوم لحم من 8 سنين». أما نادية على، فتحكى حكاية أخرى «أنا عندى 4 عيال واتطلقت من جوزى، ومافيش حل قدامى غير إنى أروح أجمع ملوخية وأحمّل عربيات الطماطم بالأقفاص، باخد القفص وأمشى مسافة لحد العربية وماحدش بيساعد حد» نادية أصيبت بانزلاق غضروفى بسبب «الأقفاص» التى تحملها على رأسها طيلة موسم الطماطم والانحناء الدائم فى جمع الشيح والملوخية «إحنا بنشيل القفص ونطلع نمشى يمكن فدان ولا اتنين لحد ما نوصل العربية، ولما ظهرى وجعنى وقالوا لى عندك انزلاق غضروفى مابقيتش قادرة على الشغل فطلّعت العيال من المدارس عشان يروحوا الجمع، وأهه العيل بيطلع من الفجرية يا ضنايا يجيب كام جنيه حسب السوق ويرجع عشان أعرف أوكّلهم». لم تكن نادية أسعد حظا، وهى فى «عصمة رجل» فالزوج كان «أرزقى على باب الله بيشتغل فى تربية البهايم، وبعد الطلاق سابنى وطفش وانا بقى عندى انزلاق غضروفى، وعشان أروح الوحدة الصحية وأدفع الكشف جنيه ولا اتنين أخلى أى حد من العيال يغيب من المدرسة ويروح يشتغل عشان أعرف أروح». فى قرية جردو يبدأ فرز الملوخية بطريقة غريبة، جمل يحمل «المحصول» ويطرحه فى أقرب ساحة فى وسط القرية، وقتها تعرف النساء أن «الخير جه.. بنطلع كلنا نجرى على الجرن أو الساحة وكل واحدة تاخد اللى تقدر عليه عشان الفرز، والسعر معروف ومافيهوش فصال، فرز الكيلو بعشرة قروش وكل واحدة وشطارتها». تعيش نادية حياة أخرى فى الليل، فما إن يبدأ ليل الشتاء الطويل حتى تبدأ آلام الظهر فى الظهور «مش عارفة أعمل إيه، وكل اللى أقدر عليه إنى أغلى الشيح اللى بنجمعه وأشرب منه شوية بيقولوا دوا حلو.. أعمل إيه آدى الله وآدى حكمته». حالة أحمد صابر تختلف تماما عن نادية ونورا، فالرجل الذى ولد فى 1966 يعتمد بالكامل على عمل زوجته وطفلتيه «أنا كنت كويس وباروح مع عمال التراحيل، ولما جيت فى مرة أروح أجمع ملوخية صوابعى اتقطعت فقلت أودّى مراتى والعيليتن دول عشان نعرف نعيش» فقد أحمد أصابعه، لكنه لم يفقد الأمل «باخد معاش السادات 79 جنيه بادفع منهم 30 جنيه إيجار الأوضة دى والمية والنور والعيال بيشتغلوا والدنيا ماشية». يجمعن «الذهب الأخضر» .. ويفرزن المحصول مقابل 10 قروش للكيلو كتب: مروان عبدالعزيز إذا كان المثل الصينى الشهير يقول إن «النساء يحملن نصف السماء» بمشاركتهن فى نصف الأعباء المادية للبيت فإن النساء فى قرية جردو يحملن السماء كاملة. فتيات فى عمر الزهور، أمهات يحملن أطفالهن أثناء العمل، تلميذات تسربن من التعليم إلى «الغيط» مباشرة، وأطفال يمزجون اللعب بالعمل. هكذا هو الحال فى قرية جردو بالفيوم، فبينما نحتفل بالمرأة فى شهر مارس كان علينا أن نلتفت للجهة الأخرى لنرى كل هذه الظهور المحنية على جمع المحاصيل فى قرية «جردو». مع أولى تباشير الفجر يعرفن أن وقت «هدة الحيل» قد حان، يخرجن جماعات من البيوت ليصلن إلى جسر قديم على مدخل القرية، هناك حيث يبدأن فى رحلة البحث عن لقمة العيش فى قرية استمدت شهرتها من زراعة نوع خاص من نبات الملوخية الذى يرتفع إلى ما فوق المترين فى الهواء، وتعتبره القرية «الذهب الأخضر». فى جردو الجميع يتجه نحو زراعة الملوخية فالأراضى جيدة، والعمالة - ممثلة فى النساء - لا تكلف شيئا تقريبا. وفضلا عن «الذهب الأخضر» يزرع الأهالى نبات الشيح الطبى، ويليه فى الأهمية محصول الطماطم. ورغم التنوع الزراعى فإن النساء يمثلن الجسد الرئيسى لقوة العمل فى القرية، فسواء كن أمهات أو شابات، متزوجات أو عجائز، فلاحات أو متسربات من التعليم لا فرق، فالجميع يريد أن يحمل سماءه بجنيهات قليلة تتقاضاها المرأة الجرداوية آخر اليوم. مع بدايات يناير يبدأ أول مواسم النساء فى جردو للبحث عن «لقمة العيش». فمع تباشير الشتاء يكون المحصول قد حان جمعه، تخرج النساء من البيوت بعد أن يطوف الرجل الوحيد الذى يشارك فى عملية الجمع كمقاول أنفار وينادى «اللى عايزة تشتغل تروح على الجسر الساعة 6 الصبح بكرة» ومع النداء الدورى تعرف نساء القرية ما يجب عليهن فعله. الأمهات يصنعن فى الليل «جراب» للأطفال الرضع يشبه جراب الكانجرو لتضم الأم صغيرها وهى تعمل فى الجمع، أما الزى الرسمى فهو النقاب الريفى، مجرد «طرحة» سوداء تلفها المرأة حول وجهها ليس من أجل «خير سلف لخير نقاب» ولكن للابتعاد عن خطر الشمس ولدغات الحشرات المنتشرة. فى السادسة صباحا تخرج نساء القرية إلى الجسر، هناك حيث يجدن مقاول الأنفار أو «الرصّاص» وهو الذى يتولى مسؤولية «رص» العاملات و«شحنهن» فى سيارات تنطلق إلى أراضى القرية حيث يجمعن الملوخية فى كراتين من الصباح الباكر وحتى بعد صلاة الظهر، حيث تبدأ رحلة عمل أخرى تضم إحصاء «الغلة الخضراء» ووضعها فى كراتين وتحميلها على سيارات النقل للذهاب إلى المخازن. فى العمل يبدأ «الرصاص» مهمته قبل الأخيرة وهى مراقبة العاملات، فعلى طول امتداد الحزام المزروع بالملوخية، الذى يحيط بقرية جردو من 3 جهات تركز عيون «الرصاص» على الظهور المحنية، فالرأس المرفوع يعنى بالنسبة له أن إحدى العاملات توقفت عن جمع الملوخية وهو الأمر الذى يقدره – حسب اتجاه الريح – فى آخر اليوم حين «يرص» النساء فى طوابير من أجل «اليومية». لا ينتهى العمل بنهاية ضوء الشمس، فبعد العصر هناك موعد آخر مع «يومية» جديدة للنساء فى جردو. على عتبات البيوت وداخل المخازن تبدأ النساء فى مهمة أخرى وهى الفرز. وحسب تقرير المؤسسة المصرية للحق فى التنمية فإن أجر فرز كيلو الملوخية 10 قروش فى المتوسط، ويمكن للعاملة أن تفرز نحو 30 كيلو يوميا فى المتوسط أيضا. القروش القليلة التى تحصل عليها نساء جردو تكفى بالكاد للخروج من موسم الذهب الأخضر نحو موسم الشيح الطبى. الشيح هو النبات التالى على قائمة «الزراعات الاستراتيجية» للقرية، فالأهالى يزرعونه بدلا من «وجع القلب» فى الزراعات التقليدية، ويعتبرونه «فرصة» جيدة لتحقيق مكاسب بعد انتهاء موسم الملوخية. فى مجال الشيح أيضا تظل النساء الوقود الحقيقى لماكينة العمل. فبعد الانتهاء من «هوجة الملوخية» تبدأ نساء القرية رحلة أخرى نحو الجسر ذاته وتحت إمرة «الرصاص» ذاته من أجل البحث عن لقمة عيش صعبة هذه المرة بطعم الشيح الطبى. فى «موسم الشيح» الذى يبدأ فى أواسط يناير تذهب النساء للعمل وهذه المرة ب«الإنتاج» فجمع كيلو من الشيح يعنى الحصول على 50 قرشا، وحسب المؤسسة المصرية للتنمية فإن العاملة تستطيع جمع 20 كيلو بحد أقصى يوميا بعد العمل من الصباح الباكر وحتى بدايات المغرب. أما فى موسم الطماطم فيعود العمل باليومية للواجهة، حيث تذهب النساء أنفسهن إلى «الغيطان» يحملن أطفالهن فى جراب الكانجرو ويبدأن العمل مع أذان الفجر وحتى الظهر مقابل 5 جنيهات للفرد، فيما يحصل الأطفال المشاركون فى العمل على نصف اليومية. وأوضحت دراسة مؤسسة الحق فى التنمية أن متوسط الأجور خلال فصل الشتاء يصل لحوالى 250 جنيهاً للفرد، بينما يصل متوسط ساعات العمل إلى 18 ساعة يوميا لمن تعمل فى جميع المحاصيل وتنخفض الى عشر ساعات لمن تعمل على محصول واحد، بينما يصل متوسط الدخل خلال فصل الصيف إلى 200 جنيه شهريا مقابل 10 ساعات عمل يوميا فى المتوسط. وأضافت المنظمة، فى تقرير حديث، أن 8% من العاملات من المطلقات بينما تبلغ نسبة الأرامل اللاتى يُعلن أبناءهن 12% وتبلغ نسبة العاملات من الفتيات دون الثامنة عشرة 20%، فيما ترتفع نسبة المتزوجات إلى 60% من إجمالى عينة الدراسة التى اعتمدت عليها المؤسسة المصرية فى تقريرها.