لفت نظرى نقل مكان التعازى الخاص بالنخبة المصرية أو من يريدون أن يكونوا ضمن النخبة من مسجد عمر مكرم فى وسط البلد إلى مسجد آل رشدان فى مصر الجديدة بالقرب من بيت الرئيس. الهدف واضح، هو أن يصادف خروج الريس أو أحد أبنائه للذهاب إلى مكاتبهم مع توقيت الجنازة، المهم أن يكتب فى النعى: حضر الجنازة جمال مبارك أو علاء مبارك، ولولا بُعد المسافة والملامة، لأخذ بعض السوقة فى مصر من الأغنياء الجدد جثث آبائهم وأمهاتهم إلى شرم الشيخ كى يحضر الرئيس الصلاة على الميت. نقل مكان التعزية من عمر مكرم إلى مسجد آل رشدان، يحتاج إلى مجموعة من علماء الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع والطب النفسى (السيكولوجى) لتشخيص حال ما يجرى فى مصر هذه الأيام. ولجماعتى من أهل الصعيد أقول إن العزاء فى القاهرة ليس كمجلس العزاء عندنا يا جماعة، فقد قادتنى قدماى ذات مرة لتقديم العزاء فى المسجد المذكور، فلم أر جنازة بل رأيت ما يشبه الأفراح أو العزائم عندنا، ناس بتسلم على بعضها بالأحضان، وبتتكلم فى السياسة والفن، وموبايلات بترن، ويرد أحدهم: «أهلا يا باشا، إحنا فى مسجد آل رشدان، إنتو جايين علشان نروح بعد كده الفورسيزون نتعشى». شىء غريب أن علية القوم (كما يوصفون) لا يقدرون للموت هيبته ولكنهم مغرمون بأمور الدنيا إلى الحد الذى تحس فيه بالخجل أنك أتيت إلى هذا المكان، كل الوجوه متعلقة بابن الرئيس أو الوزير الفلانى أو العلانى الذى يجلس إلى جوارك، ثم تأتى مجموعة من الراغبين فى الترشح على قائمة الحزب، وفد من النواب السابقين واللاحقين، وترى «السبع» منهم وهو «يتمسح» فى شاب لم يبلغ الأربعين من العمر لأن بيديه الطريق إلى دنيا الرئيس، أو فى يده دفاتر الحزب، شىء من السوقية لا تراه فى أى مكان فى العالم. سألنى أحدهم: كيف شكل العزاء فى أمريكا وبريطانيا؟ قلت له إننى أقف مصدوما أمام المشهد، فهذا ليس بالعزاء المصرى الذى أعرفه، ولا هو بالأوروبى الذى يضفى على الموت وقاراً، ولا الأمريكى الذى تحس فيه بالحزن وألم الفقدان فعلا، هذا خليط عجيب من السوقية الثقافية التى تشبه عربة الكشرى الملونة على ناصية أحد الشوارع الشعبية، فكيف تحول بعض المصريين من شعب له أخلاق وقيم واضحة فى الحزن والفرح، إلى شعب لا طعم له ولا رائحة، وكيف أصبح موت أعزائهم جسرا اجتماعيا للوصول إلى مطامعهم؟ فى الصعيد ينصب العزاء إلى جوار بيت الموت أو فى داخله وترى الفجيعة صارخة فى طين البيوت وسعف النخيل وسواد العيون، ولكن الأمر ليس نفسه فى جميع مصر، فقد يموت رجل فى شربين أو بنها مثلا، ومع ذلك يتقبل أهله العزاء فى مسجد آل رشدان، والهدف كما يعرف الجميع، أن يتعثر الرئيس أو أحد أبنائه فى طريقهم بالجنازة فيدخلوا المسجد وبعدها يخرج صاحب العزاء على الفضائيات ليشكر الرئيس وأبناءه على تقديم واجب العزاء! من المفهوم أن يكون عزاء شيخ الأزهر المرحوم محمد سيد طنطاوى فى عمر مكرم، فهو شيخ الأزهر، أما أن يقام عزاء والدة الفنان الفلانى، أو شقيق لاعب الكرة العلانى فى عمر مكرم، فهو أمر غريب، فهل المتوفى هو شخصية وطنية كبيرة تستوجب هذا الاستقطاب الإعلامى، أم أنها مجرد محاولة للتباهى عن طريق الجثث؟ هذا النوع من الخيال يسمى فى الأدب ال«مكابر» بالإنجليزية، خيال موت وخيال مريض، وربما الكلمة الإنجليزية لها ارتباط بكلمة المقابر العربية، أو العكس هو الصحيح. فى مصر اليوم تنتشر ظاهرة أساسها الخيال القبيح، أو المظاهر المقززة التى لا تتوانى عن المتاجرة بأى شىء وكل شىء بما فيها أجساد الراحلين. يا أخى ماذا لو لم يعز الرئيس فى أبيك أو أمك، هل سيحييهما عزاء الرئيس مرة أخرى؟ أو حيموتوا زيادة على موتهم؟ لا أعرف ما الذى حدث للبعض منا هذه الأيام حتى ينتابهم خيال السوقة، أم أنهم سوقيون منذ زمن وأنا آخر من يعرف. أما حكاية الناس التى تموت بالبنط العريض على صفحات الصحف وبالبرواز الأسود إياه، فتلك فئة لا أدرى هل ندعو أن يرحمها الله أم أن يرحمنا منها. الموت له جلال وليس لائقاً أن نتاجر بموتانا، أم أن هذه الظاهرة امتداد لما تفعله جماعة الآثار من عرض جثث أجدادنا المصريين القدامى فى ساحات الميادين العالمية من أجل الشهرة الفردية تحت مسمى الترويج للسياحة؟ وهل اهتدى العقل المصرى، ونتيجة لتكرار عرض جثة توت عنخ آمون وغيره من ملوك الفراعنة، أن يسلك السلوك نفسه فيعرض جثة أبيه (بشكل رمزى) من خلال إقامة العزاء لوالده إلى جوار بيت الرئيس؟ تساؤل سيكولوجى نحتاج للإجابة عنه من أهل العلم والاختصاص.