الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واجب مقدس فى القرآن الكريم، يكثر من الأمر باتباعه والمحافظة عليه، ونجد أجمل وأشمل ذكر له فى الآية 71 من سورة التوبة «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ». فهنا نجد النص عليه شاملاً المؤمنين والمؤمنات وسابقاً للصلاة والزكاة. كما نجد التحذير من إهماله فى تقريع بنى إسرائيل «كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ». عندما أوجب القرآن على المسلمين الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فإنه أوجد الضمير الاجتماعى فى نفوسهم، هذا الضمير الذى يتحرك لا لمصلحة الفرد، ولكن لمصلحة المجموع، والذى يقبل طواعية أن يضحى بمصلحته الخاصة لحساب المجتمع، وقد امتدح القرآن الأنصار بقوله «وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ»، وأى مجتمع لابد أن يتطلب جماعة على استعداد للتضحية بنفسها حماية له، وبدون ذلك يتعرض هذا المجتمع لهجوم الأعداء وللقضاء على استقلاله، وأن يكون الشعب بأسره تبعاً للفاتح، فالضمير الاجتماعى شرط رئيسى فى وجود المجتمع وبقائه وحمايته من العدوان. لم يفهم المعاصرون الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لأنهم أبناء مجتمع رأسمالى، القوة الدافعة فيه هى «وازع الربح»، أو أبناء ديمقراطية تقوم على الفرد، وترى أن تدخل الفرد فيما لا مصلحة مادية له تطفل وتجاوز، ولهذا ترفض المحكمة دعوى لأن رافعها ليست له مصلحة فيها. المجتمع القرآنى يرفض هذا المنطق.. إنه يرفض مجتمع «الأنامالية».. يرفض مجتمع السلبية، ويرى أن أى شىء يمس المجتمع إنما يمس كل فرد، وأى فرد يكون من حقه التدخل، فالمجتمع جسم واحد يشد بعضه بعضاً، والمسلمون عدول يسعى بذمتهم أدناهم، والرسول يقول: «مَن غشنا فليس منا»، «من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم». وحقيقة الحال أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أسىء فهمه قديماً وحديثاً، ففى القديم أخذ شكل تحطيم أوانى الخمر، وتدمير الآلات الموسيقية، وفى الحديث أخذ شكل رفع قضية حسبة على كل مفكر يجدد فى الإسلام، أو كل فنان.. شاعر أو روائى، يعبر عن مشاعره، بينما يظن العوام أنه يسىء إلى الدين. إن هذا العمل يناقض فلسفة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، التى تقوم على حرية الأفراد فى التعبير عن مشاعرهم، فلا يمكن أن يكون وسيلة لإخراس أصوات أو مصادرة مطبوعات، وأسوأ التفريق بين رجل وامرأته، إعمالاً «لأرجح الأقوال فى مذهب أبى حنيفة» إذا اعتبر زوجها وهو مفكر إسلامى زنديقاً.. ملحداً.. مرتداً. إن القرآن عندما جعل من مبدأ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فريضة، فإنه جعل الضمير الاجتماعى جزءًا من العقيدة، وهو الأمر الذى فشل فيه كل الفلاسفة والمشرعين، الذين قصارى ما وصلوا إليه أنه واجب يفترض أن يؤدى دون أن يكون فريضة دينية ملزمة.