ولأنه شديد المصرية.. ولأنه كما قال لى يوماً «سلالة مشايخ»، فإن الصوفية والعشق الإلهى يقفان خلف نطقه وألفاظه، ولأن الجيل الجديد حيل بينهم وبينه وتُركوا بسبق إصرار وترصد ليتكون وجدانهم معوجاً مشوهاً.. لقد مُنع عن هذا الجيل ذلك المعمار الوجدانى المنسوج بعناية.. أقصد عبدالوهاب.. عبدالوهاب ذلك الاسم الجامع المانع فنياً.. عبدالوهاب الذى حينما سألتنى مذيعة التليفزيون: - تحبى تسمعى مين؟ - قلت عبدالوهاب.. مغنياً وملحناً ومتكلماً!! - ومين تانى؟ - أم كلثوم خصوصاً فى ألحان عبدالوهاب والسنباطى. - يعنى حضرتك ما بتسمعيش حد من بتوع اليومين دول؟ - أنا متشبعة وجدانياً ولم يبق منى فتفوتة ليسكنها حد تانى!! هذا الجيل مسكين وحاولت جرجرته إلى محراب عبدالوهاب الفنى فاخترت فى العام الماضى وأنا أحاور سيد القانون الجنائى دكتور فتحى سرور.. اللحن المصاحب للحوار، لحن أغنية النهر الخالد لعبدالوهاب وكان حدسى فى محله فقد قالت لى شابة: - عبدالوهاب ده عجيب.. لحن النهر الخالد يجعلنى كأننى أرى النيل يهدر فى أعالى النيل ثم أراه حنوناً على أرض مصر!! الله؟ يعنى الشباب بيفهم أهه!! يعنى أولو الأمر والقائمون على الوجدان فى الإذاعة والتليفزيون هم الذين تعمدوا التقصير فى حق الشباب.. لم يقدم التليفزيون المصرى - قبل مرحلة أسامة الشيخ - فى ذكرى عبدالوهاب أى فيلم من أفلامه الستة: ممنوع الحب - دموع الحب - يحيا الحب - لست ملاكاً - رصاصة فى القلب - يوم سعيد.. وقال لى أحد مسؤولى التليفزيون منذ ثلاثة أعوام: - أصل العقد اللى اشترينا بيه حق عرض الأفلام انتهى! - ما تجددوه..! - أصل الميزانية... وقاطعته: - عبدالوهاب تقف أمامه ميزانية!! وغيرت مجرى الحوار.. فلا حوار ينفع. هذا عندنا، أما إسرائيل فإنها تحتفل بمئوية عبدالوهاب بعرض أسبوع لأفلامه فى التليفزيون وبث حوارات له فى الإذاعة، ويجىء رمضان وتواصل إسرائيل سرقة وجدان الأمة وتمد يدها فى أعماق تراث عبدالوهاب وتحصل على أدعية كان عبدالوهاب قد لحنها وغناها بصوته المتبتل الرخيم منذ حوالى خمسة وثلاثين عاماً بالإذاعة بعد أذان المغرب مباشرة تواصلاً مع لحظات الإيمان التى يعيشها المسلمون. مَن مِن جيلنا لم يعشش عبدالوهاب فى وجدانه؟ مَن مِن جيلنا لم يردد معه.. يا ضفاف النيل ويا خضر الروابى هل رأيتن على النهر فتى غض الإهاب؟ ها نحن نحتفل بذهبية التليفزيون المصرى فلا أقل من حوارات عبدالوهاب وأهمها ذلك الحوار الشامل الذى أجراه عبقرى آخر من الذين بصموا على جدار الوطن، هو الكاتب الكبير الراحل سعد الدين وهبة. إسرائيل فهمت جيداً مقام وقامة عبدالوهاب ووعت تأثيره على الجيل الجديد وأثره على الجيل القديم. إسرائيل تدغدغ عواطفنا بإذاعة الأدعية فى رمضان وليس للإذاعة الإسرائيلية دخل بسياسة نتنياهو أو باراك.. إنها تعمل فى حقل بالغ الأهمية.. إنها تتوجه للوجدان العربى والمصرى وتسعى لخطف هذا الوجدان وشحذ الهمة والسيطرة عليه!! وذلك بدراسة محسوبة، وهكذا تتم عملية استثمار عبدالوهاب، جنباً إلى جنب مع السيطرة السياسية على الساحة. وأتوجه لأنس الفقى، وزير الإعلام.. اجعل مئوية عبدالوهاب أحد روافد الاحتفال بالعيد الذهبى للتليفزيون واسحب السجادة من تحت إسرائيل التى أصبحت شديدة الحرص على التوجه إلى وجدان المصريين.. لم يعد يهمها التطبيع فهى أمسكت بأهم ما فى المصريين.. عواطفهم ووجدانهم المسكون بالفن، سواء عبدالوهاب أو أم كلثوم. لعلنا فى أشد الحاجة هذه الأيام لإعادة ترتيب الأوراق، لعلنا فى حاجة إلى أغانى عبدالوهاب حيث تأزم القمح وقد غنى له عبدالوهاب، وعصانا النيل وغنى له عبدالوهاب النيل نجاشى والنهر الخالد.. وذلك الفنان الذى ضفر الفن بتراب الوطن.. ذلك الفنان الذى رم الوجدان العربى وغنى كل أخ عربى أخى.. وكثير كثير لا أحصيه لعبدالوهاب الفنان والإنسان الذى ندمت أشد الندم لأننى لم أسجل كل كلمة كان يقولها وكل رأى كان يبديه.. إنه حينما انهزمت مصر فى 67 قال: مصر جواد أصيل.. ولكل جواد كبوة.. مصر سوف تتعافى. قبل الطبع إلى المهندس أسامة الشيخ.. أنت مهندس الوجدان الآن فلا يصح أن تترك عبدالوهاب لتستثمره إسرائيل، ابحث عن أفلامه وأندر تسجيلاته، وأعتقد أن لدى أسرته تسجيلات نادرة بصوته لألحانه التى لحنها لفنانينا عبدالحليم حافظ ووردة وفايزة أحمد.. لعل هذه التسجيلات النادرة ترم الوجدان المصرى الذى سيطر عليه اكتئاب عام. [email protected]