أشرت فى مقالى السابق ب«المصرى اليوم» إلى دخول أداء الجامعات النقاش العام واحتلالها مكانة متقدمة فى الحوار الوطنى فى العديد من الدول بطريقة غير مسبوقة فى السنوات العشرين الماضية. وقد ارتبط هذا النقاش بالسعى إلى تأكيد مساهمة الجامعات ومؤسسات التعليم العالى فى تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة، وبناء رأسمال بشرى ذى قدرات مهارية تواكب الاقتصاد المعرفى وما يُمثله من صناعات متقدمة تكنولوچيًا، ومتعمقة بحثيًا. وقد ساهم التوسع فى هذا الحوار فى طرح مفهوم الجامعات ذات المستوى العالمى. ومن ثم تركزت الأولوية الرئيسية والاهتمام السياسى للحكومات فى عدد متزايد من البلدان فى «إيجاد الأسلوب الأكثر فاعلية لإحراز تقدم كبير وسريع فى أفضل الجامعات فى بلدانهم». ومن أجل تسريع عملية التحول، أطلقت بضع عشرات من الحكومات مبادرات للتميز الأكاديمى (Academic Excellence initiative)، وخصصت تمويلًا ضخمًا لتحقيقها، بُغية الوصول إلى جامعات قوية تعمل بفاعلية فى اقتصاد المعرفة العالمى، سواء داخل البلدان أو على مستوى العالم. وقد كان تركيز هذه البرامج فى الغالب على الارتقاء بالأداء البحثى للجامعات كوسيلة لتعزيز قدرتها التنافسية الدولية ووضوحها، من ثم تبنى مفهوم الجامعات البحثية عالية المستوى. وفى هذا الإطار، تبذل القيادات الجامعية على المستوى العالمى فى الوقت الراهن المزيد من الجهود لإيجاد طرق لجعل مؤسستها أكثر تميزًا من حيث سياسات البحث العلمى وتولد المعرفة، بالتوازى مع التميز فى أساليب التدريس والتعلم، والروابط مع الاقتصاد لتعزيز التقدم العلمى، والقدرات التنافسية لجامعاتهم على الصعيدين الوطنى والدولى. ومن المرجح أو المُتوقع أن يتخذ المزيد من البلدان مبادرات فى السنوات القادمة من أجل الإسراع بتطوير وتنمية أداء مؤسسات التعليم العالى، وعلى وجه الخصوص من خلال تنمية جامعاتها البحثية، التى تحفزها جزئيًا التصنيفات العالمية. ومن أجل الوصول إلى تقييم أمثل لخبرات دول العالم التى تبنت توجه مبادرات التميز الأكاديمى، والحكم على اختيار الجامعات المُرشجة للاستفادة بها، يتعين البدء بمناقشة مجموعة «البيئات التعليمية والعلمية» الراهنة المُمثلة للتفرد فى مجال العلوم والتكنولوچيا بجامعات عصر المعرفة، وما تُمثلة من سمات وخصائص أكاديمية من ناحية، وتحليل المفاهيم والأسس المنطقية والسياق التاريخى لهذا التوجة الجديد، من ناحية أخرى. أولًا: ارتبطت مبادرات التميز الأكاديمى بتحويل الجامعات المستفيدة إلى جامعات بحثية عالمية المستوى تتبنى بالدرجة الأولى استراتيجية «تدويل التعليم العالى والبحث العلمى» (Internationalization of Higher Education and Scientific Research ) التى تتبناها منظمة التربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، والاتحاد الدولى للجامعات. إذ إنه منذ بداية الألفية الثالثة، ونظرًا لعدم القبول الذى تلاقيه «ظاهرة العولمة» وارتباطها بتحرير أسواق التعليم العالى واتساعها. وحرية انتقال البرامج التعليمية والكوادر التعليمية عبر الحدود، ومشاكل تطبيق اتفاقيات «الجات» على هذا القطاع المرتبط بالتنمية البشرية، اتجهت العديد من الجامعات بدعم من منظمة اليونسكو والاتحاد الدولى للجامعات إلى طرح مفهوم معدل أو مختلف بشكل ما عن «العولمة» يركز على البعد الدولى للجامعات وانفتاحها عالميًا، يُطلق عليه «استراتيجية التدويل». ورغم تعدد التعريفات الخاصة بتدويل التعليم العالى والبحث العلمى من خبراء التربية والتعليم، فإن التعريف المعتمد من «الاتحاد الدولى للجامعات» الذى يُعد الأكثر استخدامًا من قبل خبراء التعليم العالى وقياداته بأنه «عملية تسعى إلى إضفاء بُعد دولى متعدد الثقافات على الأهداف والمهام التدريسية والبحثية والخدمية المجتمعية للجامعة، وعلى طبيعة وقدرة وجدارة الخريج الجامعى». ثانيًا: رغم وجود بعض الآراء المثيرة للجدل للعولمة فى الجامعات، فإن عولمة نتائج العلوم والبحوث بطبيعتها عالمية. بسبب شبكات المجلات العلمية، والمؤتمرات الدولية، والتعاون البحثى عبر الحدود، وتنقل العلماء عبر الحدود. وبحلول نهاية القرن العشرين، عُولم العلم كما لم يحدث من قبل، وهو ما أصبح ممكنًا بفضل الإنترنت والتحول الرقمى، والاستخدام واسع النطاق للغة الإنجليزية كلغة رئيسية للتواصل العلمى، وسهولة السفر الدولى، والتوسع فى أعداد تعيينات ما بعد الدكتوراه وأعضاء هيئة التدريس التى تتم عبر الحدود، وزيادة عدد المقالات التى تحتوى على مؤلفين من أكثر من بلد واحد بشكل كبير. ثالثًا: تتبنى مبادرات التميز الأكاديمى التصنيفات الأكاديمية العالمية (World University Ranking) كأحد معايير تقييم والحكم على النتائج التى تم التوصل إليها. ورغم أن الكثيرين من «المُجتمع الأكاديمى» يشككون فى أهميتها كمقياس رئيسى لقياس التميز، وجدوى تحسين التصنيفات ودورها فى تحقيق التميز الأكاديمى، يرى صانعو السياسات والجمهور دون استثناء تقريبًا أن هذه التصنيفات علامة مهمة أو وسيلة ملائمة (إن لم تكن الأكثر أهمية) على النجاح فى المساهمة فى تحقيق الأهداف الاستراتيجية للجامعات. ويقاس ذلك فى المقام الأول على أساس المنشورات (أو النشر العلمى)، بما فى ذلك عددها وتأثيرها، والأموال التى تنفق على البحوث، وإنتاج براءات الاختراع والنتائج العملية ذات الصلة بالبحوث، والتأثير التنموى للبحث العلمى، والعديد من المؤشرات الأخرى. وفى معظم المجالات الأخرى، بما فى ذلك «التدريس والتعلم والمشاركة المجتمعية»، لا تملك التصنيفات أى وسيلة لتقييمها بدقة، أو تفتقر إلى بيانات متسقة، أو تستخدم أساليب معيبة من وجهة النظر المنهجية. ولكن ليس هناك شك فى أن التصنيفات كانت، ولاتزال، عاملًا مهمًا فى رؤية صانعى القرارات وراسمى السياسات وهم يفكرون فى رفع كل من السمات والخصائص الأكاديمية والأداء البحثى لجامعاتهم، وللحديث بقية..