(1) «الخامسة والستون» فى المحطات العمرية البارزة- المتأخرة بطبيعة الحال- يتطلع المرء إلى إعادة النظر فيما انقضى من زمن، ليس من زاوية التذكر المجرد للأحداث التى مر بها أو للشخصيات التى لاقاها.. وإنما من منظور المعنى والجدوى، أقصد إلى أى مدى كانت الذات قادرة على أن تنضج؟ وإلى أى مدى كان العمر قادرًا على مراكمة الخبرة؟ وإلى أى مدى كان العمر يحمل جدوى أو أكثر للذات ولمن حولها من ذوات وللواقع؟ إلى أى مدى كان العمر متفاعلًا ومؤثرًا ونافعًا فيما يتعلق بالذات والآخرين والواقع وبأى نسبة مقارنة بأفعال الخصومة والسلبية والضرر؟ هل كان العمر نقمة أم نعمة؟ وإلى أى حد كان العمر مدركًا لدروس التاريخ المعيش الخاص والعام؟. وللإجابة عن الأسئلة السابقة وغيرها لابد لنا من العودة لسنوات التكوين الأولى للمرء (والتراوح والنضج)، وكيف تشكلت منظومات الأفكار، والمشاعر، والتحيزات، والتوجهات، والاهتمامات.. ومن ثم كيف تبلورت الخيارات والمسارات وفق الإرادة الإنسانية الحرة من جهة، وكيف فرضت الأقدار نفسها- بطبيعة الحال أحيانًا- ضد إرادة المرء ورغباته من جهة أخرى. كذلك ما طرائق التعليم المختلفة التى تعرض لها، وما المهن التى امتهنها، وما الجهود والنشاطات العامة التى انخرط فيها، وما الإبداعات التى أبدعها... إلخ. بهكذا مقاربة مع الزمن يمكن فهم الذات الإنسانية لا فى بعدها المهنى، أو جانبها الفكرى، أو دورها المجتمعى، وإنما فى حالتها المتشابكة مع كل ما سبق وأكثر. فى هذا المقام، يتم تجاوز الزمن باعتباره وقتًا- كميًا- يتكون من وحدات زمنية إلى الزمن كمعنى وجدوى. (2) «الزمن الإنسانى» ومتى بدأنا التعامل مع الزمن كمعنى وجدوى، فإن تعاملنا مع الذاكرة فى هذه الحالة سوف يدفعنا إلى أن نتجاوز مفهومنا عن الذاكرة باعتبارها: «أرشيفًا للحكاوى والحواديت...»، أو حسب الأديب الفرنسى «مارسيل بروست» (1871- 1922) «مستودعًا للذكريات». فالذاكرة لدى صاحب العمل الخالد: «البحث عن الزمن المفقود»، «طاقة للديمومة والتغيير». الذاكرة بهذا المعنى طاقة رهيبة عند البشر على المستويين الشخصى والعام لإحداث الفارق فى الحاضر والمستقبل. وعليه يكتسب الزمن- بما يتضمن من ذكريات متنوعة ومتشابكة ومتعددة المستويات- الحيوية والإنسانية. فيصير الزمن إنسانيًا. إذ يكون قابلًا للاستلهام، والاستدراك للتوجيه، والاستدعاء للحث والدعم، والاستنفار من أجل التغيير.. وإذا كان هذا هو الحال مع العمر المفرد، فماذا إذا عاش المرء أكثر من عمر؟ نعم من حيز الوحدات الزمنية، العمر هو العمر: عشرة، عشرون، ثلاثون، أربعون، خمسون، ستون، خمسة وستون، إلا أن شعور المرء يتجاوز الوحدات الزمنية نظرًا، كما أوضحت قبل خمس سنوات- عند بلوغنا الستين من العمر- بأن تلك الوحدات الزمنية قد تضمنت «مشاوير عديدة»: متداخلة، ومتكاملة، ومتوازية، ومتناقضة فى «مسارات» مهمة، وثرية، وملغومة، ومؤثرة. أى لم يكن العمر نمطيًا، أو خطيًا، أو ساكنًا، أو عاديًا. وهذا لا يعنى أن المرء يعطى لنفسه قيمة، بل بالحرى «لمساحات الحركة» التى أُتيحت له أن يخوض غمارها بمشاعر مختلطة- ولكن بإرادة واعية- رغبة فى الاكتشاف والتماسًا للفهم.. من هنا كان اختيارنا لعبارة «أكثر من عمر»- أو أكثر من مساحة للحركة بما تحمل من خبرات وشخصيات لتكون عنوانًا ليس سيرتنا الذاتية وإنما إضاءات على عديد مساحات الحركة التى خضنا أغوارها- كمفهوم يعكس رؤيتنا للزمن بأبعاده المرتبطة ببعضها ارتباطًا وثيقًا: الماضى، والحاضر، والمستقبل. (3) «نحو عُمر أكثر نضارة» قد يبدو الزمن لدى البعض فى مجمله هو عُمر يقضيه الإنسان فى انتظار جودو- أو أيًا كان من ننتظره- الذى لا يأتى قط (نسبة لمسرحية «صموئيل بيكيت» الشهيرة فى انتظار جودو) أو يأتى ما لا نتوقعه أو الذى ليس على هوانا... إلخ. فإن هناك دومًا من يرى فى الزمن- أيًا كان وصفنا أو تقييمنا له- معنى وجدوى يدفعان الإنسان إلى ضرورة البدء من جديد. حتى بيكيت نفسه أقر بأنه: «يمكننا أن نعاود من جديد. لا يبدو ذلك صعبًا. الانطلاق هو الصعب. ويمكن أن ننطلق ابتداء من أى شىء: صحيح، لكن عليك أن تقرر. عندما يبحث الإنسان يسمع. فلنطرح الأسئلة على بعضنا...». أو بحسب حلاج صلاح عبدالصبور (1931- 1980) تجديد اللقاء من أجل «بكرة» بين: «شوق الصحارى العطاش/ بشوق السحاب السخى»، (حيث) «... تتندى العروق ويلمع فيها اليقين/ فيخضر غصنى ويزهر نطقى وظنى...».